عادل حمودة
كنت أول من تكلم معه عبر الموبايل فور تنفسه الحرية من جديد، بعيدا عن زنزانته الموحشة في سجن بيلمارش.. جاء صوته علي غير عادته شاحبا.. هادئا.. حزينا.. أقرب للصمت والسكون.. لكن.. الأمطار الصيفية التي استقبلت الدكتور ممدوح حمزة بباقة من زهور التفاؤل أنعشت روحه, وأعادت الثقة في نفسه وضاعفت من قوة صوته.. وبعد أن تنفس هواء لندن بعمق لم يفعله من قبل, برغم سخونة الطقس الممزوجة بالرطوبة التي غيرت من طبيعة الحياة في العاصمة البريطانية.. راح يصلي ويقرأ القرآن ويفكر في كيفية النجاة من تلك المكيدة التي رسمت له باحتراف وإحكام.
في تلك اللحظات لم تكن لندن في عينيه، هي نفسها لندن التي عشقها وعاشها وحصل علي درجة الدكتوراه فيها, وأصبح ضيفا ينال الترحيب والتقدير في قصر ملكتها.. إن عقله سينفجر من كيفية تدبير تلك التهمة المريبة التي لا تناسب مكانته العلمية الرفيعة في الهندسة.. تهمة التحريض علي قتل أربعة مسئولين مصريين؟.. لكنه.. وهو خارج الي الحرية علي ذمة القضية لم يكن مسموحا له أن يتكلم أكثر مما يجب خوفا علي حياته.. أو علي الأقل حتي لا يتهم بالتأثير علي القضاء.. وهي تهمة يحسب لها ألف حساب. إن ذلك كله جعل لندن مدينة أخري غير التي عرفها.. جعلها مدينة خشنة.. جافة.. ليست بالرقة التي تظهر بها.. تخفي وراء ضبابها الرمادي وبيوتها العتيقة وعتمتها الموحشة, ما هو أكثر مما كان يتصور ويتخيل ويعتقد.. فهل وصل الي النقطة الصعبة الحرجة التي وصل إليها قبله شخصيات مصرية كانت أكثر منه شهرة وقوة؟.
لقد كنت في لندن يوم قتل علي شفيق.. مدير مكتب المشير عبدالحكيم عامر.. كان ذلك في صيف سنة1977.. وجدوه مضروبا علي رأسه بآلة حادة فجرت شرايين النزيف حتي فارق الحياة.. اكتشفوا الجريمة بعد عشرة أيام من وقوعها, بعد أن فاحت رائحة عفنة من شقته في شارع هارلي المتفرع من شارع اكسفورد, ويعرف ذلك الشارع الجانبي بشارع الأطباء, ففيه عيادات مشاهير الأطباء البريطانيين في مختلف التخصصات.. وقد وقعت الجريمة ليلا.. في وقت كانت فيه حفلة صاخبة في أكثر من شقة بالعمارة.. وأغلب الظن أن هذه الضجة كانت متعمدة كي لا يسمع أحد صراخه وهو يموت بتلك الطريقة البشعة.. وهي الطريقة التي يصفي بها تجار السلاح من يخرج عنهم.. إن ذلك حدث أيضا مع تاجر سلاح مصري شاب.. قتلوه ببوابة حديدية نزلت علي رقبته وهو يدخل ضيعة أحد بارونات السلاح في ضاحية من ضواحي مدريد.
كان الي جوار جثة الضابط المصري السابق حقيبة بها نحو مليون جنيه استرليني, وهي إشارة الي أن هدف القتل لم يكن السرقة.. كان قتلا لمجرد القتل.. نوع من تصفية حسابات داخلية في احدي شبكات السلاح.. كأنهم يقولون في رسالة مكتوبة بالدم: إن المال لا يهم.. المهم عدم الخيانة.. والفوز بصفقة بعيدا عن الشبكة.. وهو ما فعله علي شفيق.. باع سرا صفقة سلاح لفصيل من الفصائل اللبنانية وتصور أن لا أحد سيعرف بما فعل.. وانه سينجو بفعلته.. لكن.. صدرت الأوامر لاثنين من أقرب أصدقائه في الشبكة أن يذهبا إليه ويتناولا كأسا ثم يتخلصا منه.. وهو ما كان.. وبرغم أن الجريمة وقعت علي أرض بريطانية, فإن شرطة سكوتلانديارد لم تجد في الجريمة ما يغري بمواصلة التحقيق فيها.. فأغلقت الملف وقيدتها ضد مجهول.
الشيء نفسه حدث في جريمة سقوط رئيس الحرس الجمهوري الأسبق الفريق الليثي ناصف من الدور العاشر في عمارة ستيورت تاور.. كان ذلك صباح يوم24 أغسطس سنة1973.. وقد كنت أول من حقق هذه الواقعة ونشرتها بكل مستنداتها في كتاب الأيام الأخيرة للسادات.. إن الليثي ناصف الذي ولد عام1922 وتخرج في الكلية الحربية عام1940, هو الذي اختاره الرئيس جمال عبدالناصر لتأسيس وقيادة الحرس الجمهوري تقديرا لثقته فيه.. وهو الذي كلفه الرئيس أنور السادات بالقبض علي رموز النظام في15 مايو1971, الذين سماهم مراكز القوي, وذلك بعد أن أقسم أمامه يمين الولاء للشرعية.
وقد روت لي قصة ما جري زوجة الليثي ناصف السيدة شوفيكة قبل سنوات في شقتها بعمارة ليبون الشهيرة.. إنها حفيدة أمير قوقازي.. وكان المسئول عن التفتيش علي أعمال الأسرة المالكة في مصر في عهد السلطان عبدالحميد.. آخر سلاطين الدولة العثمانية.. وقد بقي في مصر بعد انقلاب كمال أتاتورك وتوليه السلطة في تركيا.. وقد التقت بضابط شاب هو الليثي ناصف في صباح يوم23 يوليو1952 جاء ليقبض علي أحد أقاربها هو إسماعيل فريد فوقعت في هواه وتزوجته.. وانجبت منه ابنتين هما هدي ومني علي اسمي ابنتي جمال عبدالناصر.
بعد أن استقر أنور السادات في السلطة بنحو السنة، منح الليثي ناصف رتبة فريق وأخرجه من الحرس الجمهوري وعينه مستشارا عسكريا في رئاسة الجمهورية.. وظل في موقعه الذي كان بلا سلطة فعلية حتي ابريل عام1973.. وفي ذلك الوقت عين سفيرا في الخارجية ورشح للسفر الي اليونان.. لكن.. قبل أن يتسلم عمله في أثينا سافر الي لندن للعلاج.. وبواسطة محمود نورالدين, الذي كان موظفا في السفارة المصرية هناك, قبل الانقلاب علي أنور السادات, وتشكيل تنظيم ثورة مصر فيما بعد, سكن في الدور العاشر من ستيورت تاور.. وهناك كان المسرح مجهزا لما هو قادم.
في ذلك الصباح الأخير، استيقظ الليثي ناصف هو وزوجته وراحا يقرآن القرآن, ثم صلي وتناول الافطار.. وفي الساعة التاسعة تقريبا قام وهو بالبيجامة والشبشب ودخل الحمام.. كانت هذه هي المرة الأخيرة التي رأته فيها حيا.. فعندما تأخر في الخروج من الحمام, طرقت الزوجة الباب ثم فتحته فلم تجد زوجها.. وتصورت أنه خرج ليتمشي كعادته.. لكنها فوجئت بطرق علي الباب بعد نحو الساعتين وكان الطارق ضابطا من الشرطة البريطانية.. أبلغها أن زوجها سقط من دور مرتفع بعد أن أصيب بدوار أفقده الوعي.. وأسقط في يدها.
لم تقتنع الزوجة بتلك الرواية, خاصة أنها علي حد روايتها لي, لم تجد بقعا دموية في جثته, كما أن النافذة كانت مغلقة وأمامها صالة كانت تجلس فيها ابنته هدي,كذلك فإن الشبشب كان في قدميه وهو يرقد علي الأرض.. لم يخرج من قدميه وهو يسقط من كل هذا الارتفاع.. وسيطرت علي الزوجة فكرة واحدة لم تستطع أن تتخلص منها حتي ماتت, وهي أن زوجها قد قتل.. وان القاتل دخل بنسخة أخري من المفتاح ليلا وهم نيام واختبأ في دولاب الابلاكار في انتظار اللحظة المناسبة.. وهي لحظة خروجه من الحمام الي حجرة النوم.. في تلك اللحظة خرج القاتل من مخبئه وسارع بوضع كمامة من المخدر علي أنفه وهو يكتم بيديه فمه, ثم فتح باب السلم الخلفي وخرج وهو يجره بهدوء.. وبعد أن تخلص منه ألقي به في عرض الطريق حتي يبدو الحادث كما وصفته الرواية الرسمية.
هذا هو السيناريو الذي سمعته من عائلة الليثي ناصف.. وكان واضحا أن أصابع الاتهام أشارت الي محمود نورالدين, لكنه سارع بإرسال خطاب لي من سجنه وهو يقضي عقوبة اتهامه بتكوين تنظيم ثورة مصر, ونفي تلك التهمة تماما.. كذلك فإن الدكتور مصطفي الفقي وكان دبلوماسيا في لندن, وقت الحادث, كتب رسالة أخري لي ونفي أن يكون ما وقع للفريق الليثي ناصف جريمة.. وإن أكد أن الرغبة في دفن الرجل قد حرمت البوليس البريطاني من مواصلة التحقيق فيما جري.. فأغلق الملف دون أن تكون هناك فرصة أخري لفتحه.
بعد28 سنة علي ذلك الحادث, وبالتحديد في يوم20 يونيو2002، وجدت النجمة السينمائية سعاد حسني ملقاة في المكان نفسه أمام ستيورت تاور.. وكأن المكان قد أصبح لعنة تصيب مشاهير المصريين الذين يقتربون منه.. وندعو الله علي نجاة الكاتب الساخر محمود السعدني الذي يسكن فيه منها.. كانت سعاد حسني تعيش في شقة بالدور السادس مع صديقتها نادية يسري بعد ساعات قليلة من عودتها من مصحة تشايمنيس التي تقع علي بعد ساعتين من لندن بالسيارة.. في منطقة تسمي ويدجنتون بوتوم وقد حققت عن قرب أيامها الأخيرة في المصحة التي وصلت الي99 يوما.. وكانت في رفقة سيدة مصرية هاجرت من مصر في عام1956 هي فيكتورين كلارك.. وقد تصورت سعاد حسني أن المصحة كفيلة بإصلاح ما تكفل به الزمن.. وعندما شعرت بأنها عاجزة عن مواجهة الضغوط القوية لعودتها الي مصر وهي علي صورة لم تكن ترضاها لنفسها.. كان ما كان.
لكن.. كان هناك من يصر علي أن الواقعة جنائية.. وأن سعاد حسني قتلت لأنها كتبت مذكرات تكشف فيها ما يجعلها هدفا للاغتيال.. وهو تصور يتسم بالسذاجة.. فكل الموضوعات التي وصفت بالخطورة وقيل انها في مذكراتها, هي في الحقيقة موضوعات سبق أن كتبت ونشرت ولم يتخلص أحد ممن فعل ذلك.. وهكذا.. أغلق الملف في بريطانيا.. مثله مثل غيره.
عادل حمودة (الاهرام)
- آخر تحديث :
التعليقات