يقول الدكتور حيدر عبد الشافي، إن مأساتنا تكمن في ان القيادة الأولى للفلسطينيين قبل العام 1948، أهملت الأهمية الفائقة لمفهوم "النظام"، والقيادة الحالية أهملت هذا الأمر كذلك. ولكنه إذ يلتمس العذر للقيادة الأولى، لأن الفلسطينيين كانوا أقل تعلماً، فإنه لا يستطيع التماس هذا العذر للقيادة الحالية.
ويستشف من كلام عبد الشافي حول "النظام"،انه يقصد الدقة التي تعمل بها الساعة السويسرية، وإن لم يقل ذلك. وليس إقامة النظام، الذي هو أصعب شيء، من لا شيء تقريباً.
تختلط الأمور دوماً كما هي العادة في نقاش المثقفين والنخبة السياسية الفلسطينية كما العربية، كما هو الحال أيضاً حول مفهوم الاصلاح. إذ قال لي، هل تستطيع أن تميز فهماً واضحاً، لما يقصد بمفهوم "النظام"، أو "الاصلاح". إن الجميع بلا استثناء منخرطون في هذا الجدل الطويل، حول هذين المفهومين، بما في ذلك الرئيس ياسر عرفات نفسه، الذي تحدث عن تجديد "النظام"، وإعادة تقييم تجربته. وهكذا لا أحد أحسن من أحد بين قاعة الكومودور في غزة وقاعة المجلس التشريعي في مقر الرئيس.
لكن بين الانتقادات النظرية التي يتردد صداها في القاعة الأولى صباحاً في غزة، وبين الجهد الواضح الذي يبذله الدكتور نبيل شعث لشرح فلسفة التنظيم لعمل وزارة الخارجية ظهراً، أمام حشد من كادرات وزارته، ثمة حاجة للتأمل في هذه الانطباعات التي تثيرها المقارنة، بين ما يقال هنا وهناك، حول النظام والمنظومة والاصلاح.. الخ.
يحدد الدكتور شعث، وهو واحد من أفضل الخبراء في علم الإدارة، المفاهيم الرئيسية عن آليات التكامل في تنظيم العمل، بحيث يعمل المئات بالأخير كرجل واحد، لا واحد بديلاً عن الكل. وهاكم السلك السياسي الرئيسي، وكيف يمكن أن تخدم الدوائر المساندة والخدماتية والاستشارية هذا الخط الرئيسي. وكل ذلك، في صلب مفهوم النظام، وعن التخطيط والأدوات، والآليات، والأهداف.
وهو يقول، إنه خلال سنة واحدة، بعد إقرار فلسفة التنظيم الجديدة، يجب الوصول الى محو نوعين من الأمية في وزارته: محو الأمية الانكليزية، ومحو الأمية الكمبيوترية، ثم الإعداد لامتحان الدبلوماسية، لمحو الأمية الدبلوماسية.
إن اجتماع الهيئة الموسعة لكادرات وزارة الخارجية في غزة ورام الله عبر "الفيديو كونفرنس"، والشروحات المعمقة التي يقدمها الدكتور شعث تبدو شديدة الحماس والتفاؤل، مقارنة بالأجواء الرطبة والباردة التي يتحدث بها بعض المتكلمين في ندوة الكومودور، عن إصلاح النظام السياسي والاصلاح، في عبارات معادة كل مرة تقريباً.
لكن حول طاولة وكرسيين في حديقة الأبراج الايطالية في حي النصر مساءً، وبينما نحتسي القهوة، ونواصل التدخين أنا ومحدثي، فإنه يمكن إعادة تركيب جميع المفاهيم السالفة. إن أحداً لا يصغي إلينا من الجمهور، ونحن نقوم بتحليل الخريطة العالمية كأي فلسطينيين يجتمعان معاً.
يقول محدثي، إن المسألة الرئيسية في كل ما يتعلق بالقيادة الأولى، والقيادة الثانية، هي ان الفلسطينيين الأوائل أدركوا مبكراً أهمية انشاء هذه المنظومة السياسية الاجتماعية التي بإمكانها وحدها، تأطير كفاحهم الوطني. وأنت تلاحظ، ان المطلب الرئيسي المتكرر للنخبة القيادية الفلسطينية، طوال الوقت من الادارة البريطانية الكولونيالية، ينحصر تقريباً بالسماح للفلسطينيين بإجراء الانتخابات العامة، وكانت بريطانيا ترفض، والحركة الصهيونية كذلك.
ولذا حين وصلنا الى العام 1948، كان الفلسطينيون يواجهون حربهم المصيرية، دون امتلاكهم هذه المنظومة السياسية "النظام". وهذا هو السبب الرئيسي والحاسم لخسارتنا، وهزيمتنا. كان المجتمع الفلسطيني مفككاً.
غسان كنفاني اقول، لاحظ ذلك في تحليله لثورة 1936، ويقول محدثي إن المؤرخ الاجتماعي الاسرائيلي باروخ كولنغ يعود الى كنفاني في تحليله المعمق حول هذه القضية في كتابه الهام "الفلسطينيون صيرورة شعب".
وإذاً، نعود الى السياق: ما حدث في المرحلة الثانية، القيادة الحالية، ان هذه القيادة نجحت في إقامة هذه المنظومة، التي فشل في إقامتها الفلسطينيون على مدى قرن، ولذلك، فإن حديث شارون، وكل الحرب الدائرة منذ أربع سنوات، تدور حول هذه الكلمة المفصلية: جعل هذه المنظومة غير ذي صلة، لإعادة الفلسطينيين الى وضع الفراغ، والتفكك الذي كان عشية 1948.
ويقول محدثي، وان هذا يشبه في بعض الحالات، ان تقول لطبيب اذهب واعمل بدون أية إمكانات، وعليه أن يشتق امكاناته وأدواته من مواد أكثر بدائية، وهكذا هي المنظومة السياسية الحالية للفلسطينيين. (أين بذخ وترف طموح الساعة السويسرية) تم تشكيلها في أسوأ الشروط والظروف الممكنة، ولكنها رغم كل عيوبها، برهنت على جدارتها أن تشكل الإطار الوحيد القادر على تفعيل إمكانات الفلسطينيين المادية والمعنوية، وأن تكون الأداة الوحيدة القادرة على الانجاز، وذلك بغض النظر عن أية ملاحظات انتقادية حول هذا النظام.
وانه من خارج هذه المنظومة السياسية والاجتماعية، التي يشكل أنشاؤها نقطة تحول تاريخية وحاسمة في الصراع، ما كان يمكن تصور تحقيق أية انجازات سياسية، أو قدرة على البقاء، وصمود الفلسطينيين في هذه الحرب الأكثر تطاولاً من جميع الحروب الأخرى التي خاضوها منذ العام 1948.
وحتى الفساد، يضيف محدثي، قد يمكن تصوره في هذا السياق، كنوع من شراء الولاءات التي تخدم هدف المنظومة العام، كجزء من غريزة السلطة والقوة نفسها، مطلق أية سلطة، أو منطق قوة، بأكثر ما يعكس أو يشير الى علامات دالة على عفن المنظومة نفسها، أو بنية النظام ككل.
ويقول محدثي، إن اللحظة الحاسمة في الوصول الى خلق هذه المنظومة السياسية انشاء حركة "فتح" نفسها، التي لا أحد يدرك زئبقيتها، التي تحول دون القدرة في السيطرة عليها، كما شقها، انه لهذا المكوّن الفريد الذي تمثله "فتح"، تُغري قدرة هذه المنظومة السياسية الفلسطينية على الانجاز.
ويوضح الدكتور شعث في ذات السياق: ان القاعدة التي تستند إليها فلسفة التنظيم، هي مزيج من الخبرة النظرية لعلم الإدارة، واستراتيجية التخطيط السياسي، كما الى عقلية "فتح" نفسها، هذه العبقرية الأخيرة التي قوامها يمكن اختصاره بكلمة سحرية واحدة هي: "التزامنية"، بديلاً عن الاشتراطية التكاملية.
إن عقلية "فتح" تكون بهذا المعنى الذي قصده شعث قد شكلت ما يمكن تسميته انقطاعاً معرفياً، أو ابستمولوجياً في الوعي والذكاء السياسي الجمعي للفلسطينيين، على حد سواء. يقول شعث: ينخرطون في الكفاح المسلح دونما التخلي عن النزعة البراغماتية في العمل السياسي، بالتزامن مع هذا الكفاح، دون انتظار أن تأتي حرب التحرير الشعبية أكلها.
يقول محدثي، يبدو ان الثغرة التي كانت قائمة في السبعينيات، هي التي تم إغلاقها بعد اتفاق أوسلو، بين حجم الشعارات الكبيرة من الخارج، التي رفعتها الفصائل، والقدرة على تأطير إمكانات الفلسطينيين في منظومة سياسية واجتماعية، بجسر الهوّة بين حجم الهدف والقدرة على تفعيل أدوات واقعية لتحقيقه، أو جعله ممكناً.
أن يحاربوا ويتفاوضوا في نفس الوقت، أن يواصلوا التصدي للمهام المباشرة للعمل دون انتظار تحقيق الاصلاحات الكاملة والناجزة. يضيف شعث في الحديث عن العقلية الفتحاوية، يمكن لنا أن نضيف الى ذلك من عندنا، الشروع في بناء جهاز دولاني، يسميه محدثي "المنظومة"، دون انتظار إكمال تحقيق السيادة، أو إقامة الدولة على الأرض نفسها.
ويقول الدكتور شعث في هذا السياق، إنه يريد الوصول الى دقة النظام الذي يطبق في وزارة التعليم، بصدد التعيينات والترقيات، والانتقال الى العمل في السلك الدبلوماسي. حيث لا يمكن إجراء هذه التعيينات في وزارة التعليم، دون إخضاع المرشحين للامتحانات، ومن دون المرور على مصفاة اللجان المحققة. وهذه هي الوسيلة الوحيدة للتخلي عن الواسطة وإخضاع التوظيف العام لمعايير صارمة ولكنها عادلة، وهذا هو إصلاح النظام.
ولكن في الانتقال الى وضع الاقليم، إذ علينا أن نحلل سياسة العالم، بعد تحليل السياسات الفلسطينية، فإن محدثي يشير الى إيران، باعتبارها حاملة التغيير الاستراتيجي القادم في الاقليم ككل، إن لم يكن العالم. فيما يتحدث الدكتور شعث عن الدول المحورية ذات الأهمية الجديدة. ويذكر شعث هنا تركيا في ظل حكومة اردوغان، والهند بعد الانتخابات الأخيرة، التي أعادت تعديل المسار، والبرازيل بعد إعادة فوز شافيناز، وجنوب افريقيا.
يقول محدثي، إذا نجحت ايران في امتلاك السلاح النووي، فقد امتلكت السلاح المطلق. وهذا يعني إخضاع السيطرة على النفط لسكان المنطقة.
الصين ستكون الزبون الأكبر للنفط بعد دخولها مساراً من التنمية لا يمكن العودة عنه. والتحالف القادم، هو أوروبي، روسي صيني، لا يملك مفراً من دعم طرفين: دعمنا نحن الفلسطينيين، لأن الأوروبيين لم يعد أمامهم مجال للدفاع عن مصالحهم سوى الشرق الأوسط، وتمرير حصول إيران على السلاح النووي كحليف رئيسي بديل عن العراق.
في غضون ذلك، يصل سعر برميل النفط الى أعلى معدل له، 50 دولاراً للبرميل الواحد. إن سيطرة إيران على السلاح النووي سوف تحسن قدرتها ومجال مناورتها لدعم بدائلها السياسية في التأثير على الأحداث السياسية في المنطقة. ولذا هم يستفيدون من اشغال الفلسطينيين، لإسرائيل عن الاهتمام بدورها الاقليمي، ومن استنزاف أميركا طاقتها في العراق.
ويقول شعث كيف نستفيد الآن، من محاولة جديدة تقوم بها البرازيل ومصر وجنوب افريقيا، لاستعادة زخم كتلة عدم الانحياز، المناوئة للسياسات المتطرفة لإدارة بوش.
نحن كما ترون منشغلون من شعرنا حتى أخمص أقدامنا، بالحوار الداخلي مع أنفسنا حول الاصلاح، لكننا في الواقع، لا نشعر ان العالم يميد بزلازل وبراكين سياسية قادمة، قد تحدد مصيرنا ومصير هذه المنطقة.
ما يدهشني ان النقاش الفلسطيني العام هو دون مستوى المسائل المطروحة، ولا يستطيع أن ينظر الى أعلى ما يحدث. وذلك رغم ان الحديقة الفلسطينية، التي تتسع لمائة زهرة، هي الحديقة الوحيدة التي تزدحم بالصراخ والنقاش والحوار دونما أية قيود. وان الساحة الفلسطينية هي الساحة الوحيدة التي تذكر بساحة أثينا حينما كان بمقدور ربات البيوت المشاركة في تقرير السياسة العامة.
على كل مساوئ المنظومة السياسية الفلسطينية، وغياب الدقة في نظام النظام الفلسطيني، فإن هذه المنظومة قادرة على استيعاب هذه الفوضى في الأفكار، الفوضى الوحيدة الجديرة بالاحترام.