الحل الامني هو السائد لحسم معركة النجف. من الواضح ان الحل السياسي لم يكن وارداً، ويتحمل الطرفان المسؤولية. فلا السلطة القائمة ولا الفئات الشيعية الاخرى طرحت افكاراً صالحة للاستثمار في حل سلمي. ولا مقتدى الصدر او تياره عرضا ملامح لهذا الحل. اذاً، فالمواجهة هي المطلوبة، خصوصاً ان السلطة الحقيقية ـ الاميركية ـ انتهت الى تصنيف تيار الصدر عنصر ازعاج وبلبلة. والاكثر اقلاقاً في هذا التيار انه ملتبس، اذ يمكن اعتباره عراقياً محضاً، كما يمكن استشفاف بعد ايراني فيه وهو في الحالين مفتوح على الاختراقات والاستغلالات شتى. الاخطر انه مسلح ومنبثق من بيئة تكره الولايات المتحدة وتخوّن السلطة العراقية التي نصّبها الحاكم الاميركي.
وعلى رغم تاريخية التيارات الشيعية الاخرى وتمتعها بالتنظيم والانضباط والعلاقات خارج العراق، الا ان قواعدها الشعبية لا تبدو واسعة او ذات اهمية. وقد اعتمدت هذه التيارات كسواها على الاميركيين لتعاود الدخول الى البلد، منخرطة في اللعبة السياسية على رغم تناقضها في معظم الاحيان مع منطلقاتها المبدئية. لا شك ان هذا السلوك تسبب لها بخسائر، لكنه كان ولا يزال خيارها الوحيد، وهو قد يكون مجدياً ومربحاً في المدى الطويل. غير ان بروز تيار الصدر أحرج الآخرين، خصوصاً بما عناه من وجود هوّة واسعة بين الذين بقوا تحت سلطة النظام السابق وعانوا في مواجهة الامرّين، وبين المعارضين الذين انتظروا سقوط النظام ليدخلوا بإذن من قوات الاحتلال. وقد دخلوا فعلاً وعيونهم مركّزة على السلطة، وانشغلوا بما يستطيعون انتزاعه من مكاسب غير مبالين بما يعتمل في صدور الناس او بغليان الشارع.
فيما كانت السلطة محطّ الأنظار لتأكيد انتقالها الى الشيعة وترسيخ هذا الانتقال عبر مراسيم الحاكم الاميركي، كان العاملون على هذا الانجاز المهم في تاريخ العراق يغفلون عن حال الشيعة الذين يعانون من عقود الاهمال وجمود التنمية واستفحال الفقر وشيوع العوز. لذا كان منطقياً ان يبدو تيار الصدر معبراً عن هذه الشريحة الواسعة، حتى كأن هذا التيار وجد نفسه اعتباطاً وصدفة، بعدما دفعت قرارات سلطة الاحتلال بالآلاف الى الشارع بلا عمل ولا رزق، ولكن مع أسلحتهم، بل كثير من الاسلحة. بديهي ان شيعة بغداد ومدن اخرى، ممن تربوا بعيداً عن مؤامرات المؤسسة الدينية، لا يقيمون لمقتدى الصدر وتياره اي اعتبار، ولا يراهنون عليه وانما على «الدولة» آملين ان تستعيد نهجاً مدنياً علمانياً متوازناً. لكن الامر يختلف في المناطق والأرياف التي لم ترَ فارقاً يذكر بين قسوة الحياة تحت الحصار الاميركي والعقوبات الدولية في ظل نظام صدام، وبين الصعوبات التي تفاقمت مع الاحتلال وبعد سقوط صدام.
كانت هناك حقائق ووقائع عراقية كثيرة لم يلتفت اليها «العراقيون الجدد» الآتون من الخارج، او بالأحرى انكروها ودعوا الاميركيين الى تجاهلها. الا ان الواقع الذي غذّى ظهور تيار الصدر يبدو من اكبر اخطاء التغافل العراقي ـ الاميركي. طبعاً كانت هناك حاجة الى مرجعية للتعامل مع هذا الواقع، وبدت المرجعية الشيعية ممثلة بالسيد علي السيستاني مؤهلة للقيام بدور حيوي. وكي تنجح في ذلك كان عليها ان تحافظ على حيادها وان تنأى بنفسها عن اغراض هؤلاء وشطط أولئك، وان لا تلعب لعبة الاحتلال وان لا تبدو حصاناً لسلطة قيد التكوين او لتيار صدري يحاول جرفها في اندفاعاته غير المحسوبة. هذا الخط الدقيق الذي رسمته المرجعية لنفسها يصلح لوضعية غير صراعية، اما في الحال الراهنة فيبدو انه يتيح لمختلف الاطراف ان يتجاوزوها.
لمعركة النجف بعدٌ ديني رمزي واضح، لكن لها بعداً «غير عراقي» لا يبدو ان كثيرين يتّنبهون اليه. انه تسخيف التعرّض للاماكن المسماة مقدسة وذات حرمة روحية ودينية. فرجال الشرطة العراقيون الذين يسيرون في اثر القوات الخاصة الاميركية في اقتحامها لعمق النجف لا يعرفون اي «شرعية» للمهاجمين، انهم مجرد غطاء. والعملية تبدو مجرد اعادة لسيناريوات اقتحامات اسرائيلية في القدس المحتلة. مثل هذه الغزوات الامنية والعسكرية لم يكن مجدياً يوماً في تبديد الأحقاد، بل يبقيها في الذاكرة ويؤججها.
التعليقات