فيصل عبد الحسن: يتحدث محمد شكري عن قبر أخيه في سيرته الذاتية الخبز الحافي فيقول: رأيت هناك قبورا كثيرة بلا ريحان، بلا بلاطات قبل قبر اخي: ربوة من التراب وحجران (مختلفان في الشكل) يشير واحد منهما الى الرأس والآخر الى القدمين. تألمت للقبور المنسية: تكسوها نباتات وحشية، بعضها منهار، حتى هنا، في المقابر، عندهم الاغنياء والفقراء... والإحساس بالفجيعة والفقد نشعرهما في السطور التي أوردناها، وهو شعور عام تجده في معظم إبداع محمد شكري، ونجد ايضا في أدبه يأسا حقيقيا من الوضع البشري، كما في قصصه في مجموعة مجنون الورد، والخيمة، والمذكرات التي كتبها عن زيارة جان جينيه الى طنجة ومذكرات عن زيارة تينسي وليامز، وحتى في الجزء الثاني من سيرته الذاتية: lt;lt;زمن الاخطاءgt;gt; والاخير منها lt;lt;وجوهgt;gt;. وقبل سنة وفي مثل هذا الشهر توفي المبدع محمد شكري في 15 آب 2003 بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان الذي فتك به بالرغم من العناية المركزة التي تلقاها المبدع بأوامر من الملك المغربي محمد السادس وحكومة بلاده وأصدقائه ومحبيه...
ولم ألتق بالكاتب محمد شكري غير مرتين، مرة في طنجة عند تكريم الشاعرة العراقية نازك الملائكة بوضع اسمها على جائزة الشعر وإعلان مسابقة شعر سنوية سميت باسم مبدعتنا الكبيرة شفاها الله من مرضها، وكان ذلك في عام 2001 وكنت قبلها أرسلت له روايتي في عام 1999 عراقيون أجناب عقب صدورها بالبريد وأرسل لي رسالة يشكرني فيها، واتصلت به بعد ذلك هاتفيا أكثر من مرة ليشارك في استفتاءات ثقافية أنجزتها لجريدة الزمان التي كنت أنشر فيها مقالاتي، والمرة الثانية التقيته في معرض الدار البيضاء في سنة 2002 وكان شاحبا وقد تمكن منه المرض، فلم أره بالحيوية التي وجدته فيها عند أول لقاء، وفي اللقاءين كان المبدع محمد شكري كريما مضيافا، ودودا لا تمنعه شهرته من اصطحاب ضيوفه الى مطعم قريب أو حانة أو الى شقته اذا زاره الضيوف في مدينة طنجة. وروى لي الكثير من العراقيين الذين زاروا طنجة والتقوا به انه كان محباً للعراقيين ومضيفاً وحانياً عليهم، وكان دائم السؤال عن العراق وأحواله... ويصحبهم في جولات في مدينته التي يقول عنها إنه مواطنها الابدي، ليشاطره ضيوفه طعامه، ويقدمهم بشكل بروتوكولي ساخر لا يجيده غير الممثل انتوني كوين حين يقدم عجائزه المتصابيات الى أصدقائه حين يقدم الضيوف الى خادمته العجوز أمينة التي تقوم بتنظيف شقته وإعداد الطعام له، فهو بقي أعزب حتى مماته، والشائعات التي دارت اخيراً على ألسنة البعض حول زواجه بالطبيبة الشابة التي كانت ترعاه في شهور مرضه الاخيرة، كانت مجرد شائعات، وقد بنت عليها الصحف التي لا تتوخى الموضوعية والدقة، لقد كان محمد شكري من محبي حياة العزوبية، وهذا جزء مهم في شخصيته، ولفهم أصل الحكاية عزوفه عن الزواج الرجوع الى مذكراته في الجزء الاول والثاني والثالث، ليقرأ عن العلاقة التي كانت بينه وبين أبيه، وقد أخبرني في طنجة في تلك الزيارة اليتيمة لشقته وهو يشتم أحد الآباء من الجيران كان يعاقب ابنه بالضرب وصوت الصغير يعلو بالصراخ، إن هذا الصبي محظوظ، وأباه يصفعه فقط ثم رأيت وجه محمد شكري ينقبض ويتحول الى لون الليمونة وقال: أتذكر ان أبي حين كنت بعمر هذا الصبي باعني الى صاحب مقهى بعشرين بسيطة... ورأيته يمضي بالعشرين بسيطة فرحا ولم تفد صرخاتي وتوسلاتي به ان يعود... لكنه لم يعد، وكان صاحب المقهى مسروراً بالحصول على خادم لمقهاه يعمل ليلا ونهارا بهذا الثمن البخس: عشرين بسيطة فقط... وتذكرت وقتها ما كتبه محمد شكري عن أبيه، وكيف قتل أخاه الذي يصغره بسنتين. يقول محمد شكري في سيرته الذاتية الخبز الحافي lt;lt;تذكرت كيف لوى عنق أخي، كدت أصرخ: أبي لم يكن يحبه، هو الذي قتله. رأيته يقتله، هو هو قتله. رأيته يقتله. لوى عنقه. تدفق الدم من فمه، رأيته رأيته يقتله قاتله الله...gt;gt;.
لقد تحكمت في ذهن المبدع محمد شكري صورة الاب القاسي والزوج اللامسؤول والقاتل الذي لا يتورع عن إزهاق روح من جاء من صلبه... لقد كان الماضي القاسي جلاد شكري ومعلمه الذي يرشده الى ما يجب ان يفعله وما لا يفعله...
هل كان بخيلاً
كان فضولي لمعرفة الوجه الآخر لمحمد شكري يحثني على السؤال عن أحواله وكيف يتعامل مع الفقراء، أولئك الذين تمتلئ كتبه بالحديث عنهم، وما ان جاءت الفرصة لأتحدث مع خادمته أمينة من دون رقيب وأسألها لماذا لا يبدو الغنى على سيدها وقد ترجمت سيرته الذاتية الخبز الحافي الى أكثر من عشر لغات وبيعت عشرات الآلاف من النسخ منها، وباع حقوق تحويلها الى فيلم سينمائي لأحد المخرجين الفرنسيين، من الذين يهتمون بإنتاج أفلام عن المجتمعات الافريقية... وخصوصا عن الريف المغربي وسنوات الاستعمار لمناطق شمال افريقيا.
أجابتني الحاجة أمينة: انه يوزع أمواله على الفقراء، قلت لها وكيف يتمكن من تحديد الفقراء الذين يحتاجون مساعدته وفي طنجة أعداد وفيرة من المتسولين، ابتسمت الحاجة أمينة، وقالت: لشكري جواسيسه.
لقد كان يستخدم العيون أو بلغة أمينة الجواسيس لمعرفة من الفقراء حقا، ومن الذي يحتاج حقا الى مساعدته.
أكتب هذه السطور القليلة وفاء للحقيقة واحتراما لذكرى المبدع محمد شكري وما جاء في طرائف حسونة المصباحي التي كتبها في الشرق الاوسط بتاريخ 30/12/2003 تحت عنوان عقب مرور اربعين يوما على وفاته... طرائف محمد شكري وللاسف تلك الطرائف التي حكاها المصباحي، وكلها تقريبا تؤكد بخل محمد شكري وقلة إنسانيته وعدم وفائه لأصدقائه الفقراء من المغاربة بل وحقده عليهم وشعوره بالعار منهم، فهو على سبيل المثال يقول عنه عندما زاره المصباحي في شقته عام 1998 وانه قبل استضافته lt;lt;بالرغم من ان محمد شكري لا يطيق استضافة حتى الاقربين الى قلبه، فإنه سمح لي ذات مرة بأن أقاسمه شقته الصغيرةgt;gt; ويقول في جزء آخر من تلك الطرائف: في صيف 96 كنا نستمع الى الموسيقى بعد ان تغدينا طاجين سمك لذيذا أعدته لنا الخادمة فتيحة عندما تعالت طرقات قوية وملحة على الباب. أخذ الكلب جوبا ينبح عاليا. تململ محمد شكري غاضبا وهمس لي: lt;lt;من هذا الوغد الذي يتجرأ على إزعاجي في مثل هذا الوقت؟gt;gt; لدقائق عدة ظل مترددا في فتح الباب. فلما اشتدت الطرقات وأصبح نباح الكلب غير محتمل، صاح شكري وهو يرجف من شدة الانزعاج lt;lt;من الطارق؟gt;gt;.
ومن وراء الباب، جاء صوت نحيل، متعب يقول: lt;lt;افتح يا شكري.. أنا عبد العزيز!gt;gt; lt;lt;ومن يكون عبد العزيز هذا؟gt;gt; سأل شكري وقد ازداد توترا وانزعاجا، ورد صاحب الصوت النحيل المتعب قائلا: lt;lt;أنا عبد العزيز... صديقك القديم في العرائشgt;gt; فتح شكري الباب فظهر رجل قصير، أشيب، يعتمر قبعة صيفية، وكان بادي الهم والتعب.
أنا عبد العزيز يا شكري كنت صديقك في العرائش... أنسيتني؟! قال الرجل بصوت ازداد فحولة واضطرابا.. ظل شكري يتفحصه صامتا ثم رد عليه قائلا:
لقد نسيتك بالفعل.. ولكن ماذا تريد الآن؟
سمعت أنك أصبحت مشهورا جدا... وفي جميع أنحاء العالم. فجئت لأهنئك بذلك!gt;gt;.
قال الرجل بشيء من الغبطة والابتهاج:
شكرا جزيلا! رد شكري مبقيا الرجل دائمة عند الباب، مد الرجل عنقه الى الأمام، مسترقا النظر الى داخل الشقة ثم قال لشكري: سمعت أيضا انك أصبحت غنيا... أليس كذلك؟
هذا ليس صحيحا البتة. قال شكري بنبرة انزعاج واضحة...gt;gt;.
وسنأتي الآن على أهم جملة في هذه القصة التي أوردها المصباحي:
الناس يقولون ذلك... وعلى أي حال.. هذا ليس مهماً.. المهم هو أني أحبك يا شكري.. والله أحبك لوجه الله.. فقط لوجه الله..
فماذا قال له المبدع الكبير حسب طرائف المصباحي:
بارك الله فيك، قال شكري وقد بدأ صبره ينفد.
ظل الرجل صامتا لحين ثم قال متمسكناً:
لقد طلقت يا شكري.. وسوف أتزوج من جديد قريبا.
مبروك عليك هذا الزواج الجديد.. قال شكري
الله يخليك! قال الرجل..
ويكمل المصباحي رواية هذه الطرائف المخجلة قائلا، وهو يجرد محمد شكري حتى من إنسانيته وينال منه بهذا الشكل، وهو يواجه هذا الصديق القديم الجائع الذي جاء من مدينة أخرى يقصد هذا الذي صار مشهورا وغنيا، ويكمل المصباحي lt;lt;وعندئذ لم يعد بإمكان محمد شكري أن يتحمل فأغلق الباب بقوة في وجه الرجل الذي انصرف بعد بضع دقائق، إذ اننا سمعنا وقع خطواته وهو ينزل المدارج وأشعل شكري سيجارة أخذ رشفة من كأسه ثم قال: هذا الكتاب الخراء يقصد الخبز الحافي يريد أن يحولني الى مؤسسة إحسان تساعد المطلقين الطاعنين في السن على الزواج من جديد!gt;gt;. ويروي المصباحي عن طلبه من محمد شكري في إحدى المرات ويصفه بالطباخ الماهر أن يطبخ لهما lt;lt;هرقمةgt;gt; وهو نوع من الأكل المغربي، وغير صالح في الحرب ويتطلب إعداده وقتا طويلا، فلم يبد تحمسا، لكن ذات صباح فاجأه محمد شكري ليطلب منه أن يذهب معه الى السوق ليشتريا lt;lt;كرعينgt;gt; الكرعان هما قائمتا البقر الصالحتان لإعداد الهرقمة وتطلب إعداد الهرقمة يوما كاملا وفي المساء جلسا في البلكون، برغم الحر، يقول إنه أكل صحنين كاملين، واستمرت سهرتهما حتى الساعة الواحدة صباحا.
وعاد المصباحي الى الفندق، وما ان تمدد لينام حتى هاج بطنه وماج واستمر الى الصباح، ولم يستطع النوم تلك الليلة، وبعد أن أشرقت الشمس غرق في النوم حتى الخامسة مساء، وعندما استيقظ من النوم أخذ دشا وتوجه الى مقهى البريد حيث يجلس شكري في مثل هذا الوقت من كل يوم، يقول المصباحي وجدته يشرب واقفا. وكان في أتم أناقته. حالما رآني، راح يضحك عاليا، سأله: لماذا تضحك، فواصل شكري ضحكه غير عابئ بسؤاله، ثم سأله شكري: ماذا حدث لك.. هل نمت طول النهار؟gt;gt; وروى له المصباحي ما وقع له بالتفصيل في الليلة الفائتة، فانخرط شكري في ضحك محموم، ثم قال: lt;lt;اسمع يا صديقي.. لقد تقصدت إيذاءك وأعددت لك هرقمة من صنف خاص حتى لا تطلبها مني في الصيف مرة ثانية!gt;gt; واكتفى هنا بهذا القدر مما يعتبره حسونة المصباحي طرائف، وقد حز في نفسي أني لم أجد كاتبا مغربيا واحدا يرد عليه بشأن طرائفه عن محمد شكري والرد على ما جاء في مقالة المصباحي لتوضيح سلوك مبدعهم ورواية ما يناقض ما جاء بقلمه. وأعتقد أن لدى الشاعر محمد الأشعري وزير الثقافة المغربي الحالي وصديق عمر محمد شكري ومحمد برادة صديق شكري المقرب ولهما كتاب منشور يتضمن رسائل محبة وأشواق تبادلاها ولرقة كلماتها تغار منها كل عذراء بتول والشاعر حسن نجمي رئيس اتحاد أدباء المغرب وأحد أصدقاء الفقيد المخلصين وغيرهم من المبدعين المغاربة الذين لديهم الكثير من الحكايات التي تدلل على إنسانية وكرم كاتب بقامة محمد شكري، وما أكثر لقاءاتهم به وما عاشوه معه في ظروف الشدة وظروف الرخاء، وليس لي هنا إلا أن أقول، رحم الله محمد شكري الذي كتب كثيرا عن فقراء المغرب وجعل معاناتهم واضحة المعالم لكل من قرأ أدبه، لقد كان صديق الفقراء بحق...
- آخر تحديث :
التعليقات