القاهرة من محمد أبوزيد: قليلة هي الكتب النقدية التي تضع في اعتبارها استعادة القارئ الى قراءتها بأسلوب يجمع بين البساطة والجدية في آن. ومن هذه الكتب كتاب «صيادو الذاكرة ـ في النقد التطبيقي» للروائية والناقدة المصرية الدكتورة رضوى عاشور والصادر عن المركز الثقافي العربي، الذي ضمنته دراسات عن ابن طفيل واميل حبيبي وادوارد سعيد ونجيب محفوظ وفؤاد حداد وأمل دنقل وشكسبير وكونراد وهيمنغواي ولوكاتش.
ورغم كثرة الدراسات التي كتبت عن حي بن يقظان لابن طفيل إلا أن رضوى عاشور تقدم في كتابها رؤية مختلفة فهي ترى أنها تتيح اختبار بعض المقولات النظرية الخاصة بالعلاقة بين الأدب والأيديولوجيا واستجلائها وذلك لأنها «ليست مجرد رسالة فلسفية ولا هي عمل أدبي خالص بالمعنى الدارج للتعيبر بل تبدو كأنها تقع على الحدود المشتركة بين الفلسفة والأدب. كما أنها تتميز بارتباطها بعدد من النصوص الشبيهة، منها ما تعيد كتابته، ومنها ما يعيد كتابتها. وتكشف المقارنة عن معنى أشكال التعبير ودلالاتها».
والدلالة الأيديولوجية التي تستخلصها عاشور هي صورة الانسان المنعزل في جزيرة مهجورة، فعزلة حي في الجزيرة ليست أمراً عشوائياً أو مصادفة، انما اختيار تمليه ضرورة أيديولوجية، ورسالة خاصة تقول ان الانسان قادر بمفرده على الوصول الى المعرفة بمختلف أنواعها، بما في ذلك المعرفة الصوفية، وإن الارشاد الديني ليس المصدر الوحيد للمعرفة الدينية بل يمكن لانسان متوحد ومنعزل أن يصل إلى جوهر هذه المعرفة عبر التأمل وهذا يعني أن الوجود الاجتماعي في منطق النص ليس شرطاً محدداً للمعارف الانسانية.
ولا تقدم عاشور «حياً» على أنه صورة رمزية للانسان، الكائن الاجتماعي الذي ينتج أفكاره ومعارفه في خضم انتاجه لحياته المادية وتاريخه اليومي، بل تقدمه على أنه صورة رمزية للعالم الفيلسوف المتصوف، كما تقدمه على أنه شخصية خارج نطاق التاريخ والرواية أي رواية، سواء اتسعت لتشمل نسيج مجتمع في حقبة تاريخية برمتها، أو ضاقت حتى تحددت في وعي شخصية واحدة تظل دائماً معنية بعلاقات اجتماعية في سياق تاريخي بعينه.
وتربط عاشور بين مالك الحزين لابراهيم أصلان وثلاثية نجيب محفوظ لأنها كرواية محفوظ نص مسكون بالتاريخ يعرض لمساحة ممتدة من واقع مصر المعاصر وينسج من عناصره نسجيته المختلفة وان اختلف أسلوب النسج. وتقول عاشور ان الذي يحكي في ثلاثية محفوظ صوت وان تدثر وتخفى وذاب في الموضوع حتى بدا أن ذات الحاكي غايته والحكاية تحكي نفسها ورغم ذلك فالصوت حاضر حضور اليد القابضة للمؤلف الذي يرى كل شيء ويرصده ويصفه ويحيط به ويحكم حركته، فيما يكون الصوت عند أصلان صوتاً وجلاً، خافتاً، يتأمل الأشياء التي يعرفها والتي لا يعرفها، لا يُسهب في الكلام الذي تقطعه مسافات الصمت، هو صوت مثقل وملجم ومتسائل يقدم على استحياء فيأتي كلامه مختصراً ومقتضباً ومقتصداً، يتجلى الصوت مرئياً ومحسوساً وهو الخافت الوجل، في حالة شعورية تحيط بالنص كالمطر الناعم على صفحة نهر في يوم غائم - مؤكدة أنه يغلف الوجود بحزن شفيف هو حزن مالك الحزين متأملاً حاله وحال زمانه.
أما مرآة محفوظ في ثلاثيته فتشير عاشور إلى انها تلك المرآة التي ذكرها سقراط في جمهورية أفلاطون تديرها من حولك فتجد الشمس والسماء والأرض ونفسك والحيوانات والنباتات وغيرها أيضاً منعكسة على صفحتها أما مرآة أصلان فتصفها بأنها أقرب للعدسة المحدبة التي تجمع على سطحها المحدود الضيق المتفرق من الأشعة، تتداخل الأزمنة مكثفة ومتكاثفة في خلق لحظة في الحاضر تتجمع فيها لحظات عديدة مضت.
وتعتبر عاشور أن كتاب الثقافة والامبريالية لادوارد سعيد امتداد لكتاب الاستشراق الذي أسس اتجاهاً نقدياً عرف باسم النقد ما بعد الكولونيالي. بالاضافة الى هذا فإن كتاب الثقافة والامبريالية يقدم سياقين آخرين، هما: سياق الكتابات الانجليزية في تعريف الثقافة ووظيفتها الاجتماعية وسياق النظرية النقدية وانجازاتها الحديثة في مجال الشكل الروائى.
والجمل الاعتراضية الكثيرة التي هي صفة أسلوبية في كتابة سعيد ترى عاشور أنها تكتسب دلالة خاصة اذ تعكس توزع سعيد بين قارئ أميركي وأوروبي من المفيد جداً أن تكون الرسالة الموجهة إليه : لست مركز الوجود إنه عالم واسع لا يبتدئ عندك، ولا ينتهي بك، وقارئ من أبناء العالم الثالث يدفع بسعيد الى الاستدراك المتكرر.
وترى المؤلفة أن تجربة القارئ الغربي من ناحية، وتجربة مواطن العالم الثالث من ناحية أخرى تجربة مزدوجة ومتضاربة ومتناقضة، ولذلك تأتي العبارة على ما هي عليه مرتبكة ومربكة. وتستغرب اختيار سعيد لمشروع أدونيس وجماعة مواقف كنموذج للمواجهة الثقافية في معركة التحديث مؤكدة ان مشروع التحديث مشروع تتكاتف في انجازه طاقات العديد من المثقفين العرب منهم من قدم ما استطاع ورحل ومنهم من يواصل الاجتهاد فيه، أما ما يطرحه أدونيس شعراً وممارسة فيثير السؤال ان كانت حداثته تحمل معها مفاتيح التحديث، ملمحة الى أن حديث الهوية عند سعيد يظل شائكاً وأصعب منه حديث العلاقة بين الموروث والوافد، في الوقت الذي تؤكد فيه أن سؤال الهوية يسقط فقط في عالم يسوده العدل. أما في عالمنا حيث تهيمن الامبريالية اقتصادياً وسياسياً كما هيمنت دائماً وتهيمن ثقافياً كما لم تهيمن من قبل وقد ملكت بمنجزات الثورة الإلكترونية مايسهل عليها مشروعها في اقامة القرية العالمية تحت جناحي النسر الأميركي، فان سؤال الهوية يطرح بالحاح أكبر.
وتجيب عاشور على سؤال: هل «سرايا بنت الغول» لإميل حبيبي سيرة ذاتية أم رواية سيرة أم جنس أدبي استولده الكاتب من السيرة والرواية والحكاية الشعبية بقولها ان «سرايا بنت الغول» على غير المتبع في السيرة الذاتية حيث يتطابق شخص المؤلف وشخص الراوي والشخصية المحورية في النص تقدم راوياً تسهل مطابقته مع المؤلف، ومروياً عنه علينا أن نكتشف علاقته بالراوي وكاتب النص، لافتة إلى أن الرواية تحفل بالصور ذات الدلالات الرمزية التي تتضافر مجتمعة - في توازيها وتقاطعها - في خلق مجاز دال. من هذه الصور البئر والسجن والنفق المغلق والكهف، تقابلها صور عين الماء والبحر والصخرة وجبل الكرمل، وصورة سرايا التي تنتظم وتجتمع فيها هذه المجموعة الثانية من الصور.
هل مات النقد الأدبي؟ وهل عفا عليه الزمن؟ في الفصل الثاني من كتابها تؤكد عاشور على أن الهجوم الموجه ضد النقد الأدبي على منهجه وأدواته الاجرائية، وفصل الأدب عن المجتمع والتاريخ والادعاء بموضوعية النقد بل تجاوزها الى المؤسسة الثقافية برمتها ومفهوم التراث الأدبي المعتمد شملت لائحة الاتهام الهامشية والنخبوية والتواطؤ مع السلطات الحاكمة، وهو تواطؤ دفع بالنقاد الى فصل الوظيفة الجمالية للأدب عن وظيفته الاجتماعية، واغفال سياقه التاريخي ومرتباته السياسية وأضيفت إلى هذه التهمة تهمة اغتصاب الناقد وظيفة القاضي والمشرع من المؤلف والجمهور والقيام بترسيخ الأمر الواقع، ودعم مواقع السلطة لافتة إلى أن الفترة التي شهدت الحركة المضادة للنقد الأدبي في نهاية الستينيات والسبعينيات شهدت كماً هائلاً من الكتابات النقدية تحت ضغط الحاجة الى إضفاء المشروعية على النشاط النقدي وتبرير وجوده. هل يموت النقد؟ سؤال مهم تجيب رضوى عليه بقولها إنه يتعين على النقد لكي يواصل مسيرته أن يتجاوز تحديد دوره في قراءة العلاقات الداخلية في النص الأدبي واغفال كل ما سواها، وان يوسع مداه ليشمل النظام الثقافي وهو نظام يملي انسحاب النخبة الى غيتوهات مغلقة وتبعية الجماهير لما يصنع لها من وعي وتتطلب هذه المهمة تمهيد الطريق لنقد ديمقراطي يحلل التشوهات ويصدر الحاجات المشروعة.
في الفصل الثالث من الكتاب، تحكي المؤلفة تجربتها مع الكتابة فتقول: «اكتب لأني أحب الكتابة، أقصد أنني أحبها بشكل يجعل السؤال «لماذا؟» يبدو غريباً وغير مفهوم»، وربما يبدو أكثر حميمية لأنها تجيب على سؤال «ترى، ما اسم الكروان بالانجليزية» بتقليبها في الذاكرة وقولها «لم نكن أطفالاً، فلم يجرؤ أي منا على قول ذلك الذي قاله نقوليوس الصغير لاستاذه، في كريت البعيدة، يوم سمع عصفوراً يغرد خارج قاعة الدرس «أرجوك يا أستاذ أسكت قليلاً دعنا نسمع العصفور».