يبدو ان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات استطاع احتواء الاضطرابات الاصلاحية التي استهدفت قيادته، وعزل رموزها في قطاع غزة والضفة الغربية، والخروج منتصرا من هذه الازمة، مثلما كان حاله في كل الازمات السياسية والامنية السابقة التي واجهته علي مدي الثلاثين عاما الماضية. ولكنه وللأسف الشديد لا يريد ان يغير شيئا، ويصر علي الاستمرار في النهج نفسه، معتمدا علي الخيول نفسها، ومطمئنا الي مفاصل الشرعية التي يستند اليها، وتوفر له الحصانة المنيعة في وجه خصومه.
انتصار الرئيس عرفات لا يعود الي خبرته الطويلة، وموقفه السياسي الوطني، والاصرار الاسرائيلي ـ الامريكي ـ العربي علي شطبه فقط، وانما ايضا الي ضعف خصومه، وعدم طهارة معظمهم، ووجود اصابع اجنبية توظف بعضهم، بحسن نية أو بسوئها، لتمزيق الصف الفلسطيني، وتسهيل الطريق امام مخططات شارون والمشروع الامريكي في المنطقة.
ولا يمكن التقليل ايضا من الدور الذي لعبته المعارضة الفلسطينية في دعم الرئيس الفلسطيني واخراجه من مأزقه، فقد القت هذه المعارضة بكل اطيافها بثقلها خلفه، في مواجهة خصومه من ابناء حركته الذين تمردوا عليه، ليس معارضة للاصلاح بل خوفا من اجندة هؤلاء، ولقطع الطريق علي مشروعهم الملغوم. حتي ان النكتة السياسية الشائعة في الاوساط الفلسطينية حاليا تقول ان عرفات اصبح الزعيم الروحي لحركة حماس ، بعد دعم الحركة المطلق له.
فهناك فرق شاسع بين اصلاح يريد تحويل اجهزة الامن الفلسطينية الي اداة في يد الاسرائيليين لانهاء الانتفاضة وقمع المقاومة، واصلاح حقيقي يقوم علي ارضية وطنية، يعزز المقاومة ويقطع دابر الفساد، ويضخ دماء وافكارا جديدة في العمل السياسي الفلسطيني، ويضع المصالح العليا للشعب الفلسطيني فوق كل الاعتبارات والمصالح الاخري.
واعتراف الرئيس عرفات، مثلما جاء في خطابه الاخير، بوجود فساد، وعناصر في سلطته استغلت مواقعها، وتقصيره في محاسبة هؤلاء، وتطبيق القانون علي الجميع دون اي تفرقة، هذا الاعتراف وحده لا يكفي، لانه في هذه الحالة سيكون بمثابة تنفيس احتقان، وامتصاص لنقمة، وهروب من المسؤولية.
خطاب الرئيس عرفات الاخير جاء مخيبا للآمال، ولا يتناسب مطلقا مع الوضع الفلسطيني الراهن، وجعل المرء يترحم علي الايام التي كانت هذه الخطابات تهز العالم بسبب بلاغتها ورؤياها السياسية الراقية والواضحة، ففي تلك الايام كانت زبدة العقول الفلسطينية من امثال محمود درويش وادوارد سعيد، وابراهيم ابو لغد، هي التي تعكف علي اعدادها في صورتها الاخيرة، ولم يكن دور الرئيس عرفات فيها غير وضع الخطوط العريضة، وارتكاب الاخطاء النحوية عند الالقاء.
الرئيس عرفات يجب ان يسأل نفسه عن اسباب انفضاض الكثيرين من حوله، وان يبدأ في اعادتهم الي دائرته بدلا من الاعتماد علي مجموعة من العجزة من اصحاب الكفاءات المحدودة، يُسمعونه ما يريد ان يسمعه فقط، ويتخصصون في تطفيش كل من يريد ان يقول كلمة حق، ويبدي حرصا اكيدا علي مصلحة هذا الشعب وقضيته الوطنية.
نفهم ان الموت غيب ادوارد سعيد وابراهيم ابو لغد، ولكن هناك محمود درويش علي بعد خطوات من مقر الرئاسة في رام الله، كما ان هناك العشرات من الكفاءات الشابة المخلصة التي تعلمت في الداخل والخارج، وتستطيع اعطاء زخم جديد للحياة السياسية الفلسطينية، بدلا من تلك الوجوه القديمة العكرة الكالحة، التي جثمت علي الحياة الفلسطينية طوال العقود الثلاثة الماضية، وكأن الشعب الفلسطيني لا ينجب غير العواجيز.
الاصلاح ضرورة ملحة، وهو الطريق الوحيد لمواجهة المؤامرة التي يتحدث عنها عرفات، ويستخدمها لتخوين خصومه وتقويض شعاراتهم الاصلاحية، فاذا كان الرئيس عرفات يخشي من خسارة ورقة الامن، بعد ان خسر ورقة المال، فان هناك مجالات كثيرة يستطيع ان يبدأ بها وهو مطمئن للتأكيد علي رغبته في التغيير.
لماذا لا يبدأ الرئيس عرفات باحداث ثورة اصلاحية في مكاتب السلطة وسفاراتها في الخارج مثلا، تؤدي الي تغيير العديد من الوجوه التي هيمنت عليها علي مدي ربع قرن. جميع سفراء فلسطين في الخارج اصبحوا عمداء السلك الدبلوماسي العربي، ليس لاسباب راجعة الي كفاءتهم بل لانهم مزمنون في مواقعهم، مثل ابي الهول لا يتزحزحون.
الدول العربية والاجنبية ملت من سفراء عرفات، وكذلك الجاليات الفلسطينية، والشخص الوحيد الذي لم يمل من هؤلاء هو الرئيس عرفات نفسه، فهو لا يؤمن بشيء اسمه التغيير، ولا يفهم شيئا اسمه التقاعد، او التقدم في السن. فالمواقع ابدية، واصحابها مخلدون، وما ينطبق علي اللجنتين التنفيذية (المنظمة) والمركزية (حركة فتح)، ينطبق علي كل شيء آخر. ثم من حقنا ان نسأل: ماذا يفعل الدكتور نبيل شعث وزير الخارجية، وما هي مهامه اذا كان يقبل استمرار مثل هذا الوضع المزري في وزارته؟
واخيرا لماذا لا يفعّل الرئيس عرفات المجلس الوطني الفلسطيني ولجانه، ويضخ دماء جديدة فيه، ويتذكر ان هناك ستة ملايين لاجئ فلسطيني في المنافي، من خلال ربطهم بالمنظمة واجهزتها؟
ان اكثر ما نخشاه، ان يكون هدف المجموعة المحيطة بالرئيس عرفات، والمنتهية صلاحياتها، بفعل القدم والتكلس الفكري، هو انقاذ نفسها، وفعل كل شيء، واي شيء من اجل البقاء في السلطة، حتي لو كان ذلك علي حساب الثوابت الفلسطينية. فاتفاقات اوسلو لم تأت من اجل انقاذ الشعب الفلسطيني، وانما انقاذ رجالات المنظمة، وكسر عزلتهم في تونس، والدليل الابرز هو بقاؤهم، وانحدار القضية الفلسطينية الي هذا الوضع المزري.
ندرك جيدا اننا ننفخ في قربة مقطوعة، ونعترف مسبقا بانها ليست المرة الاولي التي نكتب وغيرنا، مثل هذا الكلام، ونطلق هذه التحذيرات، ومع ذلك استمرت حال الجمود، وتواصلت عملية التدهور نحو القاع للأسف، ولكن نجد لزاما علينا ان نقولها، ونكررها، ابراء للذمة علي الاقل، فالوطن وطننا، والقضية قضيتنا، وجميعنا مسؤولون.