كتابان مؤثران صدرا حديثاً، وقبل أسابيع من الانتخابات الأميركية، يخطان مؤشرات الإنذار كما يراها المحافظون. وللناخبين المحافظين صوت لا يستهان به في الانتخابات الأميركية وأكثر من 60% من الناخبين ينتصرون للقيم المحافظة عبر الانتخابات، وهم منتشرون في جميع الولايات ويهيمنون على بعضها. الكتاب الأول للمفكر اللامع والمثير للجدل، صموئيل هنتنغتون، صاحب كتاب «صراع الحضارات». وهنتنغتون «أستاذ جامعة» في هارفارد العريقة، وهو أعلى منصب أكاديمي فيها. ويُعرف هنتنغتون بميله إلى قراءة المستقبل وتسخير المؤشرات العلمية والبيانية لتحليل الأحداث والتوجهات الكبرى واستنتاج أثرها على مسار المستقبل. وهي قدرات لا يقوى عليها سوى المتمكنين.
وكتاب هنتنغتون الجديد لا يقل إثارة عن سابقه، وهو بعنوان «من نحن؟». وفيه يسخّر الكاتب قدراته التحليلية الواسعة لبيان فكرته الرئيسية، وهي أن الولايات المتحدة تواجه خطرا ماحقا على المدى البعيد. ويتمثل الخطر بالنسبة للكاتب في التلاشي التدريجي للقيم الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الأميركي كما ورثتها الأفواج الأولى من المهاجرين. وهي قيم مرجعيتها الأساسية المثل والتراث الأنغلو بروتستانتي الأوروبي. وتتمثل في اللغة الإنكليزية السائدة وقيم العمل البروتستانتية الصارمة والانتصار للفردية والالتزام الديني واحترام القانون. ووفق وجهة نظر الكاتب شكلت حزمة هذه القيم القاعدة الصلبة التي يقوم عليها المجتمع الأميركي وتميزه عن الدول الأوروبية. وهي التي قادت إلى نمو الولايات المتحدة المذهل وأدت إلى تصدرها دول العالم في جميع الميادين تقريباً.
ويدلل الكاتب على مخاوفه من تراجع «الهوية» الوطنية الأميركية (وهو ما يبينه عنوان الكتاب) عبر مظاهر متعددة أخذت تترسخ في المجتمع مثل: شيوع ثقافة التنوع وتعدد الهوية القومية عند المهاجرين الجدد والتوجه نحو الأممية الاقتصادية وتوسع النهج الديموقراطي. ويرى الكاتب أن من صميم الديموقراطية تحديد هوية السكان: من نحن؟ كي يمارس الديموقراطية المكلفون بها. ويعزو الكاتب مخاوفه إلى أربعة تحديات تواجهها الولايات المتحدة.
أولها نهاية الحرب الباردة ومخاطرها التي وحدت الأميركيين أمام «الخطر النووي الأحمر». والثاني يتمثل في توسع حقوق الأقليات على حساب حقوق الأفراد الأمر الذي سيطمس الهوية الأميركية. وثالث التحديات هو موجات الهجرة من أميركا اللاتينية وآسيا منذ منتصف الستينات مع تراجع الهجرة من أوروبا. ويقارن الكاتب بين نمط الهجرة في السابق التي أذابت المهاجرين في بوتقة أميركا، بينما يحافظ المهاجرون الجدد على ثقافاتهم ولغاتهم ويقيمون علاقات وطيدة مع بلدانهم الأصلية. والخطر الأكبر والأخير من وجهة نظر الكاتب يتمثل في تركز الهجرات الأخيرة على متحدثي الأسبانية الأمر الذي سيوجه تحدياً غير مسبوق للثقافة الأنغلو سكسونية السائدة. ويدلل الكاتب على ذلك في تغلغل الأسبانية وثقافتها في أجزاء شاسعة من الولايات المتحدة.
ماذا يحمل المستقبل أمام هذه التحديات التي تواجهها الهوية الأميركية كما يراها هنتنغتون؟ أربعة احتمالات يستعرضها الكاتب. أولها أن تتحول الولايات المتحدة إلى مجتمع متعدد الثقافات، يربطه نظام دستوري. ويرى في ذلك مخاطر مثل التي واجهت الدولة العثمانية والاتحاد السوفيتي وغيرهما من الكتل السياسية التي انتهت أثرا بعد عين. وثاني الاحتمالات أن تتحول الولايات المتحدة إلى دولة ثنائية اللغة والثقافة مثل كندا وسويسرا وهو ما سيؤدي إلى ضعف بنيانها الثقافي. وثالث الاحتمالات أن تنشأ ردة فعل غاضبة لوقف هذه التحولات فتنكمش أميركا على ذاتها وتصبح مجتمعاً طارداً. والاحتمال الأخير أن تستمر أميركا في تنوعها مع المحافظة على جذورها المسيحية وتراثها الأنغلو بروتستانتي وثقافتها الإنكليزية. ويعزو ذلك إلى تأصل القيم الدينية والمحافظة وانتشارها في الولايات المتحدة. ويتنبأ الكاتب بأن تصبح الولايات المتحدة مزيجاً من هذه الاحتمالات.
أهمية الكتاب تكمن في مؤلفه المرموق وقدراته التحليلية الواسعة وشهرته في تناول المسائل المثيرة دون رهبة وبتجرد. ولقد صدر كتاب جديد منذ أيام للمعلق اليميني الشهير، باتريك بوكانون، يردد في جانب كبير منه مقولات هنتنغتون وبأسلوب شبيه، ويحذر من الخطر الماحق كما يراه. وتحليله في هذا الصدد مطابق لكتاب سابق له حذر فيه من مخاطر نظام الهجرة والتساهل مع المقيمين بصفة غير قانونية وانتشار ظاهرة ثنائية اللغة في العديد من المناطق الأميركية.
أهمية الكتابين لن تغيب عن أذهان المحافظين الجمهوريين حين يلتف شملهم في مؤتمرهم الحزبي الأسبوع القادم. وسيحمل خطاب الحزب في الانتخابات القادمة بعضاً من الهموم التي أثارها الكاتبان حتى لو سكت النص عن التعبير الصريح.
قد يشمئز البعض منا من مقولات هنتنغتون أو بوكانون، وسيتسابق الكثيرون لإلصاق تهم التطرف والعنصرية بالكاتبين. لكن جرأتهما في الطرح والتحليل للقضايا الشائكة دون رهبة ستبقى محل إعجاب حتى ممن يختلف معهما. وما أحوج قضايانا الكثيرة للجرأة والتجرد!.
التعليقات