توفيق رباحي: لمناسبة الاحتفالات بالذكري ستين لانزال الحلفاء بـ بروفانس وتحرير باريس، بثت القناة الفرنسية الثانية الثلاثاء الماضي نموذجا عن نشرة اخبار في التلفزيون الفرنسي تحت الاحتلال الالماني وادارة حكومة فيشي. نسبة التشابه في الالفاظ والتعابير مع ما يستعمله الامريكيون في وصف احتلال العراق في 2004، هي 100 في المئة: لم تستعمل النشرة الفرنسية مرة واحدة كلمة احتلال، بل كانت تتحدث عن الالمان الذين جاؤوا لمساعدة الشعب الفرنسي . ولم تتحدث مرة عن شيء اسمه انتهاكات او تجاوزات بحق المدنيين، بل عن مصير طبيعي يلقاه اعداء الشعب الفرنسي و متعاملون مع الارهابيين . واسهبت في استعراض ما كانت تسميه مساعدات الالمان للشعب الفرنسي، مرفوقة بصور لجنود يوزعون مؤونة هنا او يسعفون سيدة مقعدة او طفلة هناك.
اما النداءات السياسية التي كان يبثها جيش الاحتلال والقوي المتعاملة معه، فتنصح السكان بالانضباط والهدوء والتعاون مع المحررين الذين جاؤوا لتخليص الشعب الفرنسي العظيم .
غيّر الاماكن والتاريخ وستجد نفسك امام نفس الخطاب الامريكي اليوم.
لكن الحقيقة هي ان فرنسا والعاصمة باريس كانت تعيش احدي احلك فترات وجودها. كان هناك احتلال بغيض ومقاومة مبررة وعملاء اختاروا صفهم. وكان لكل حجج تقوّي موقفه.

ہہہ

لم يغفر الفرنسيون الي اليوم لاولئك الذين تعاملوا مع الالمان المحتلين، بل حاكموهم في الثمانينات والتسعينات ولم يشفع لهم العمر الذي بلغ ارذله والظروف الصحية المنهارة. ويتذكر الفرنسيون جيدا كلوس باربيه الذي بهدله القضاة وجعلوه يقضي اواخر عمره ذليلا بين المحاكم والسجون. صحيح ان الحجة/التهمة كانت جرائم ضد البشرية بدعوي اشرافه علي ارسال اليهود الي افران النازية، لكن الشيء الابرز هو ان القضاة الفرنسيين حاكموا من خلال باربيه حقبة تاريخية كاملة.
هؤلاء الفرنسيون انفسهم، يطلبون من الجزائريين ان يتجاوزوا، بمسحة يد، جزءا هاما من تاريخهم الحديث مرتبط مباشرة بالاحتلال الفرنسي. هذا الجزء هو قضية الحرْكة (الحركيين) والعملاء الذين اختاروا جيش الاحتلال علي ثوار بلدهم او علي ان يلتزموا الحياد.
رغم 130 سنة من الاحتلال وما أعقبها من تقارب (مفروض) بين فرنسا والجزائر، يبدو ان الفرنسيين لم يفهموا بعد العقلية الجزائرية. فلو فهموها لما تجرأ بعض سياسييهم علي مطالبة الجزائر بتجاوز موضوع الحرْكة بسهولة. اتوقع ان هذا الطلب المصحوب بضغط سياسي واعلامي، اتي بأثر عكسي تجسد في تشبيه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الحرْكة الجزائريين بالفرنسيين الذين تعاونوا مع الجيش النازي في احتلال بلدهم. ليس هناك فرق حقيقة، والاحتجاج علي التشبيه هو حالة من دفن الرأس في الرمل. اعتقد ان احتجاج الفرنسيين هو علي كون التعليق تضمن تشبيه احتلالهم للجزائر بالاحتلال الالماني لبلدهم، اكثر منه تشبيه الحرْكة بالخونة الفرنسيين. في ظرف طبيعي، وبدون ضغط، كان سيكون من الصعب علي رئيس جزائري المغامرة بمثل هذا التشبيه الخطير، لكنها الحماقة الفرنسية!
ما لم يعرفه الفرنسيون ان مشكلة الحرْكة اكبر من قضية عفو وجوازات سفر تمنح لاصحابها كي يزوروا البلد: انها مشكلة وجدانية، اخلاقية، ثقافية، نفسية، سياسية وتاريخية تمد جذورها في ذاكرة شعب ظُلم ولم يلقّن كيفية الصفح عن المحطات السوداء في ماضيه.
اؤمن ايمانا مطلقا بـ لا تزر وازرة وزر اخري ، فليس من العدل اخذ ابناء او احفاد الحرْكة بجريرة ابائهم، لكن الذين تواطأوا مع قتلة شعبهم في احلك فترات وجوده، مطالَبون بتقديم شيء لتنقية الاجواء مع هذا الشعب بصرف النظر عن كل المبررات التي تُساق في مقارنة حالة هذا الشعب (التعيسة) اليوم بالحياة (المرفهة) التي يحياها خونة الامس في البلد التي اختاروه، فرنسا.
اذا كان من حق اعلام فرنسا، خصوصا تلفزيوناتها، الاحتفاء بـ الاف الابطال المجهولين الذين هزموا الالمان بمقاومة شعبية في شوارع باريس، فليس من حقه ان يضغط علي الجزائريين (نزولا عند رغبات يمينيين متطرفين) للعفو عن خونتهم.
انتم السابقون ونحن اللاحقون: اغفروا لخونتكم فنغفر لخونتنا.
فرق بين ان تخطيء بسبب سوء التقدير او ظرف ما، وان تختار ان تكون حرْكيا وتقضي سنوات في خندق المنكّلين بشعبك.
سيظل من حق الجزائريين التعامل مع هذا الباب من تاريخهم كما يفهون (حبذا لو بلا افراط ولا تفريط). ولو ان التلفزيون الجزائري اختار الحياد السلبي.
وللقراء غير الجزائريين، الحرْكة بضعة الاف هاجروا مع الفرنسيين اثناء الاستقلال في 1962. قُتل بعضهم انتقاما لماضيهم فور اعلان الاستقلال، وحُرموا لاحقا (نظريا علي الاقل ـ الي اليوم) من تقلد مناصب المسؤولية الادارية والسياسية، بل لاحق البعض ماضيهم في حياتهم الاجتماعية مثل الزواج والمآتم. فالناس، في العموم، لا يفضلون مصاهرة عائلة حرْكة ويتجنبونهم قدر المستطاع في المآتم.
و الحرْكة مصطلح عام يطلق علي الذين تعاملوا مع الاستعمار. والحقيقة انهم فئات بينهم من يطلق عليهم عامة الناس ال÷ومية او البيّاعين : هناك من انخرط طوعا و لبس (البدلة العسكرية الفرنسية)، وهناك من عمل مخبرا وحافظ علي صفته وحياته المدنيتين، وهناك من وُظف في ما يسمي لاصاص ، وهي جهات استعمارية كانت تدير شؤون الناس وترعي أمن المحتلين.

ہہہ

وكي لا يذهب عقل القارئ نحو الحكم علي شعب بعينه، اسارع للقول ان الخيانة والعمالة للعدو تصرف مرتبط بالانسانية وبالتاريخ العربي القديم والحديث. وحتي لا نذهب بعيدا، انظروا من حولكم: موضوع العملاء جزء مخز في يوميات الشعب الفلسطيني وملف شائك فوق مكاتب مسؤوليه. وموضوع رئيسي يلازم الحديث عن تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الاسرائيلي في 2000. وكان موضوعا رئيسيا في تفسير سقوط بغداد في يد الامريكيين السنة الماضية. وكان اول ما تطرق له الكويتيون العائدون لبلادهم بعد تحريرها من الاحتلال العراقي في شتاء 1991.
مهما اختلفت التسميات والسياقات و انواع الخيانة، فالضرر واحد وهو في المبدأ.
قبل شهور استمعت الي محمد دحلان يتحدث في برنامج بالعربي.. بقناة العربية فلم يتمالك نفسه من الحديث عن الخيانة (وان كانت خفيفة ـ صوفت ) التي يرتكبها الوزراء في الحكومة الفلسطينية عندما يتبنون خطط مطاردة حماس والجهاد ثم يخرجون الي الناس متهمين دحلان بانه مصدر الشر الوحيد. وفي غضون اسابيع قليلة، كان محمود عباس ضيفا علي نفس البرنامج بنفس القناة، فقال نفس الكلام عن الزملاء الذي يطعنونه في الظهر رغم انهم شركاء في السياسات.. لكن الله كريم . وبعد شهور سيقول ابو علاء كلاما مماثلا.
هل هذه امة مجبولة علي الخيانة؟ لا اعرف، لكن الجواب يغريني بالقول ان هذه الامة ليست الاسوأ في هذا الموضوع. كل الشعوب والامم تعيش حالة نفسية في لحظات الهوان تجعلها تعتقد انها الاسوأ والاكثر عارا.