يكشف الجنرال تومي فرانكس الذي كان قائدا للقيادة المركزية الأمريكية والذي تولي مسئولية قيادة عمليات حرب العراق, في كتابه الذي صدر يوم الثالث من أغسطس الحالي, بعنوان جندي أمريكي عن أنه حذر الرئيس بوش ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد قبل غزو العراق, من أن الانتصار العسكري السريع يمكن أن يتحول بسرعة إلي كارثة بسبب عدم كفاية خطط فترة ما بعد الحرب, واستخدم فرانكس ـ الذي تقاعد من منصبه في الصيف الماضي ـ تعبيرات تشاؤمية مثل حدوث نجاح يجلب الفواجع.
وما جاء به الجنرال فرانكس هو إضافة إلي إجمالي وجهات نظر شخصيات علي أعلي قدر من الخبرة والمعرفة, متصلة بأجهزة صناعة القرار السياسي, كان تقديرها أن مشروع الامبراطورية ـ رغم كل ما حشدته الحكومة الأمريكية وراءه ـ هو مشروع غير قابل للتحقيق.
وفكرة الإمبراطورية التي تمثل مشروعا لفريق المحافظين الجدد الذي يقود السياسة الخارجية والعسكرية في حكومة بوش, قد شغلت الكثيرين من المحللين والمختصين بالسياسة الخارجية في الولايات المتحدة, وصدرت عنها كتب ونشرت أوراق بعضها يروج للفكرة ويري أنها الأفضل لصالح الشعوب في العالم في الظروف الدولية والمحلية الراهنة.
ومن خلال المناظرات التي طرح فيها المتشككون رأيهم في إمكان نجاح مشروع الامبراطورية, تعددت الأسباب لهذا وكان منها:
* بناء علي التدهور الأمني, والفوضي المنفلتة والمنظمة في العراق, والخسائر التي تتلاحق علي القوة العسكرية الأمريكية في العراق, تأكد عدم قدرتها علي ضبط الأمن, فضلا عن عدم معقولية مفهوم الأمن العسكري المطلق, من خلال تفوق القدرة العسكرية وحدها, بعد أن تضعضعت القوة الناعمة, التي تتشكل من الإقناع والجذب والاختيار, وهو عكس فرض الأوضاع والقيم والسياسات باستخدام القوة العسكرية, وايجاد إحساس لدي الآخرين بالرعب منها, والانكسار أمامها.
* إن الحكومة الأمريكية بإطلاقها مشروع الشرق الأوسط الكبير, قد صنعت ما يشبه إطلاق المارد( الجني) من القمقم, حتي ولو دون قصد, فقد وضعت الديمقراطية علي رأس مشروعها, وجعلت منها القضية والهدف والقصد, ولما كانت الديمقراطية مطلبا حيويا لجميع شعوب المنطقة, وأكبر أحلامها القومية, لكنه كان حلما حبيس ظروف إقليمية, فإن المشروع الذي خرج في صورة حملة منظمة ومحكمة قد حفز المارد الحبيس علي إزاحة السدادة من طرف عنق القمقم, لينطلق إلي الحياة, حتي ولو كانت حركته تبدو الآن, وكأنها غير ظاهرة بما فيه الكفاية, إلا أن كونها قد خرجت من محبسها, إنما يعني أنها في مرحلة تجميع طاقتها واسترداد أنفاسها وعافيتها.
لكن.. هذا التطور لن يكون في صالح المشروع الأمريكي, بل إنه سوف يكون تحولا مضادا له, لأن المشروع الأمريكي ولد أصلا من صميم مفاهيم المصالح الوطنية والأمن القومي للولايات المتحدة, خارج إطار التبادلية مع الطرف الثاني وهي دول المنطقة, وهو ـ كما وصفه الرئيس بوش ـ تحقيق لأهداف السياسة الخارجية لحكومته, باعتبار أن نقص الديموقراطية, والمعرفة, ووجود الاستبداد, يخلق إحباطا, يولد حركات وأفرادا تمارس العنف, وتصدره إلينا. أما المارد ـ أو حركة تبني الديمقراطية كمطلب وقضية مصير ومستقبل, فمن طبعها ألا تقبل ما يمس الكرامة والسيادة الوطنية, والتدخل الخارجي, وكل ما يقيد حركتها نحو تحقيق أولوياتها الوطنية, وكيل الآخرين بمكيالين في العلاقة معها, وأكبر مثل علي ذلك الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل, المتحامل علي العرب, في القضية الفلسطينية, وتسوية النزاع العربي الإسرائيلي.
* إن مشروع الإمبراطورية وأركانه التنفيذية كالحرب الوقائية ضد عدو محتمل, ومفهوم من ليس معنا فهو ضدنا, قد خلق رأيا عاما عالميا مضادا لمشروع الامبراطورية وإن لم تستخدم السياسة الخارجية الأمريكية في وصفه هذا الاسم, حتي في داخل الدول الصديقة للولايات المتحدة.. ويعكس هذا الاستطلاع الذي أجراه مركز بيو ـ عام2004, في نحو عشرين دولة, وأظهر أن الغالبية في سبع دول إسلامية من ثماني دول, يعتقدون أن الولايات المتحدة أصبحت مصدر تهديد عسكري لهم, وأن خمسا من سبع دول حليفة من أعضاء حلف الأطلنطي يريدون سياسة مستقلة في مواجهة الولايات المتحدة. بالإضافة الي انتشار مسمي العداء لأمريكا في كل اوروبا الحليفة.
الي جانب هذا فقد أدت سياسة حكومة بوش ومشروع الامبراطورية, إلي بدء حركة واسعة النطاق في أوروبا في مراكز ومعاهد البحوث السياسية والأحزاب, والمنتديات المهتمة بالشئون العامة.
والاستراتيجية, تسعي لصياغة رؤية سياسية, لموازنة قوة الولايات المتحدة, ومحاولتها الانفراد بشئون العالم, وهي حركة صارت لها أوراق عمل, ومقترحات, وبرامج نشاط منظمة.
** كل هذه الأسباب تتحرك معا في تفاعل وتكامل ضد فكرة الامبراطورية ـ أيا كانت مسمياتها ـ تهز أركانها, وتخلخل الأرض من تحتها, وتجعل منها حالة وقتية, تملك عناصر ممارسة دورها الحالي من حشد كل أشكال القدرات العسكرية والضغوط السياسية والاقتصادية وراءها, لكن تلك الأسباب المشار اليها, تجرد فكرة الإمبراطورية من مكونات تحويلها إلي كيان حي قابل للبقاء والاستمرار.. فهو حلم عقائدي مدفوع بأفكار أيديولوجية قديمة سيطرت علي جماعة المحافظين الجدد, لا تستقيم مع الواقع, ولا تمشي مع حركة التاريخ, بل تتعارض معها وتصطدم بها.
التعليقات