غير معروف على وجه اليقين لماذا نُقل جثمان علي بن أبي طالب من منـزله الصغير المكون من غرفتين طينيتين والملاصق من الجهة الشمالية ـ الغربية لمسجد الكوفة ، الذي كان وقتها مركزاً لـ « القرائين » ، الى هذا المكان الذي أصبح يعرف بـ « النجف الأشرف » ليوارى هذا الثرى الطاهر في هذا المكان المقدس الذي يبعد بضع فراسخ عن المكان الذي كان مسرح جريمة غرز ذلك الخنجر المسموم المجرم في الخاصرة الشريفة.
ربما يكون الهدف من نقله الى هذا المكان ، البعيد عن مسرح الجريمة وعن مسجد الكوفة وعن البيت البسيط الطاهر الذي شهد لحظات صعود الروح الزكية الى بارئها ، هو إبعاده عن ضجيج « القرائين » وخذلانهم وأقاويلهم وسفسطاتهم ليستريح في البقعة المقدسة التي أصبحت مهوى أفئدة المسلمين من شيعة وسنة وكل عباد الله الصالحين .
تقول إحدى الروايات انه كان هناك إلهام رباني بأن يُحمَّل جَسَدُ علي عليه السلام على راحلته الوضحاء ، التي كانت بعد ان فاضت أنفاسه الطاهرة تئن حزينة دامعة العينين وهي باركة في الفسحة الصغيرة بين بيته الطيني البسيط ومسجد الكوفة ، والتي نهضت بعد ان أصبح الجسد الطاهر فوقها لتتوجه به نحو مغيب الشمس ولتبرك في هذا المكان الذي أصبح مهوى أفئدة المؤمنين من كل أطراف بلاد الله الواسعة .
في عام « 1980 » كنت في مهمة صحافية الى أفغانستان وكنت العربي الوحيد بين مجموعة من الصحافيين القادمين من اليابان وبريطانيا وسيريلانكا والولايات المتحدة وفرنسا ودول أخرى ،لم أعد أذكرها ، وكان بصحبتنا مرافق أفغاني شاب ، كان قد أنهى دراسته تواً في إحدى الجامعات الأميركية ، جاء بنا بطائرة مروحية سوفياتية الى مدينة « مزار الشريف » ولقد قال ذلك الشاب وهو يعطي المجموعة معلومات عن مسجد هذه المدينة التي سميت بإسمه وهو مسجد فيه شبه كبير من مسجد السيدة معصومة ، أخت الإمام الرضا ، في « قم » حيث تقع الى جواره الحوزة العلمية التي تخرَّج منها الإمام الخميني ، قدس الله سره ، وخرَّج هو منها العديد من الأئمة والمعممين الذين قاموا بأدوار قيادية في ثورة فبراير ( شباط ) 1979 التي أطاحت عرش الطاؤوس.
قال الشاب الأفغاني الذي كان يشرح لنا بإنفعال شديد ، رغم أنه ينتمي الى جناح « برشام » المتـزمت ماركسياً في حزب خلق الأفغاني اليساري الذي كانت إنتهت قيادته وزعامته الى بابراك كارمال : « إن هذا المكان هو أقدس مقدسات المسلمين وإن هذا المسجد يضم جسد الإمام علي بن أبي طالب » ثم أخذ يتمتم بقراءة الفاتحة عندما ذكر إسم علي رضي الله عنه وأرضاه وكرَّم وجهه .
قلت لذلك الشاب الذي لم أعد أذكر إسمه ان معلوماته خاطئة فمرقد علي في النجف في العراق وليس في هذا المكان البعيد وأقدس مقدسات المسلمين ليس مسجد مزار الشريف هذا بل المسجد الحرام في مكة المكرمة أولاً ثم مسجد الرسول في المدينة المنورة ثانياً ثم المسجد الاقصى في فلسطين ثالثاً ثم بعد ذلك يأتي ضريح الخليفة الراشد الرابع ثم أضرحة قادة الفتح الإسلامي الأول وكبار فقهاء وعلماء المسلمين .
لم يقتنع ذلك الشاب الأفغاني بما قلت واتجه الى مجموعة الصحافيين ليخاطبهم ويخاطبني بقوله : « بعد مقتل علي في الكوفة طلب جبريل عليه السلام من أصحابه ان يحملوا الجسد الطاهر على ظهر ناقته الوضحاء وأمرها ، أي جبريل ، بالتحرك فنهضت واندفعت راكضة الى ان وصلت الى هذا المكان فناخت هنا في هذه البقعة الطاهرة ثم تحولت الى حمامة بيضاء ودفن جسد أمير المؤمنين في هذا الموضع المقدس » .. والغريب ان باحات هذا المسجد كانت ، وربما حتى الآن ، تستضيف الألوف من رفوف الحمام التي لا يوجد بينها أي حمامة غير بيضاء.