مقاطعة البضائع الأميركية خرافة. والقول بأن الولايات المتحدة تقودها فئة صغيرة من المتطرفين معظمهم من اليهود خرافة أخرى، والادعاء بسيطرة اسرائيل على القرار الأميركي خرافة ثالثة. ثم أن الولايات المتحدة لم تقصر في الموضوع الفلسطيني، وانما قدمت خلال السنوات الأربع الأخيرة مبادرات عدة لإيجاد حل معقول لما يحدث في فلسطين، ولكن الفلسطينيين والعرب لم يحسنوا استقبالها وضيعوا فرصة حل القضية.
والأمر كذلك، فلا مفر من الاقرار بأننا ظلمنا الولايات المتحدة، الأمر الذي يطرح السؤال: لماذا ازدهرت صناعة الكراهية ازاءها في العالم العربي؟
ليس هذا الكلام من عندي، ولكنه خلاصة لمقالة وقعت عليها في الأسبوع الماضي، نشرتها صحيفة «الحياة» (في 8/18) تبنت هذه الأفكار ودافعت عنها، وتطرقت إلى الموضوع بمناسبة مناقشة ملف العلاقات الأميركية العربية في مهرجان أصيلة، الذي يقام سنوياً بالمملكة المغربية.
استوقفتني في المقالة الجرأة على التخليط والتدليس اللذين حفلت بهما. وان لم يفاجئني ذلك، لأن الدفاع عن السياسة الأميركية وتسويقها، برغم كل ما فعلته بحق العرب والمسلمين، أصبح احدى الظواهر المألوفة في الاعلام العربي خلال سنوات الانكسار والضعف الأخيرة. إذ ظهرت في ساحاته المختلفة أصوات تخصصت ليس فقط في تبييض الوجه الأميركي، وانما أيضاً في تجريح وتسفيه كل ما له صلة بالهوية العربية والاسلامية، فكراً كان أو عملاً قومياً مشتركاً. وهي الميليشيات الثقافية التي أصبح يطلق عليها في مصر وصف «المارينز العرب»، الذين هم بيننا لكنهم يقفون في معسكر «الضد» لمقاصدنا وأحلامنا. أجسامهم معنا، لكن عقولهم وقلوبهم على الضفة الأخرى، أبعد ما تكون عنا.
ما دعاني إلى التعرض للنص المنشور، ليس فقط المرافعة الفجة عن السياسة الأميركية التي تضمنها، ولكن ان السؤال الأساسي الذي طرحه كان كالتالي: لماذا صناعة الكراهية ـ والسؤال ذاته أجاب عليه بتفصيل واسهاب كتاب من 400 صفحة صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت (عام 2003) تحت عنوان: صناعة الكراهية في العلاقات العربية الأميركية. ولأن الكتاب اشترك في تحريره عشرة من أبرز الباحثين العرب، عالجوا الملف من زواياه المختلفة، فانه جاء مستعرضاً ومسلطا الضوء على الموضوع على نحو شامل.
وقبل أن أعرض للخلاصة التي انتهى إليها الكتاب، فإنني أستأذن في وقفة قصيرة أمام الحجج والشواهد التي «اكتشفها» الكاتب، واستند إليها في مرافعته عن الولايات المتحدة. فقد اعتبر الدعوة إلى مقاطعة البضائع الأميركية «خرافة»، لأن أميركا لا يمكن الاستغناء عنها، ولأننا جربنا المقاطعة في مرات كثيرة وفشلنا. والأولى كلام لم يقل به أحد، والثانية غير دقيقة لأن سلاح المقاطعة أشهر في أوائل الستينيات حين نجحت الدعوة آنذاك في مقاطعة تموين السفن الأميركية بالموانئ العربية، وحين أوقف ضخ النفط في عام 73. وفشل الدعوات اللاحقة لا يعني أن الفكرة خطأ أو أنها أسطورة وخرافة، ولكنه يعني بالدرجة الأولى أن شروط النجاح لم تتوفر، وأهمها غياب القرار السياسي وافتقاد الحملات إلى الجدية المطلوبة.
لقد دعا الأميركيون إلى مقاطعة النبيذ والأجبان الفرنسية، حين رفضت فرنسا تأييد الولايات المتحدة في غزو العراق، ولم يستنكر ذلك أحد، فلماذا يقرع العرب ويتهمون اذا تحدث بعضهم بذلك؟
من ناحية أخرى، فإن المرء لا يستطيع أن يكتم دهشته ازاء انكار حقيقة أن الولايات المتحدة تقودها فئة من المتطرفين، بعضهم وليس أغلبهم بالضرورة من اليهود، وانكار أن اسرائيل تسيطر على القرار السياسي الأميركي، وإذا كانت الأولى «خرافة» كما ادعى الكاتب، فاننا اذا أحسنا الظن به فقد نقول بأنه لم يسمع «بالمحافظين الجدد» المهيمنين على ادارة الرئيس بوش، ولم يطلع على برامجهم وأفكارهم المنشورة منذ أوائل التسعينيات، ولم يقع على شيء من التعليقات الصحفية التي نشرتها بعض الصحف الأميركية وتحدثت عن «اختطاف» رموز المحافظين الجدد للسياسة الأميركية. ولذلك فإن النصيحة التي نقدمها لاستجلاء هذه النقطة، ان يتم الرجوع إلى تلك الأدبيات قبل التورط في إطلاق أحكام مغلوطة ومسطحة في هذا الصدد.
أما وصف سيطرة اسرائيل على القرار السياسي الأميركي، التي نقر بأنها ليست مطلقة ولا كاملة، بأنها بدورها «خرافة»، فذلك من قبيل انكار ما هو معلوم بالضرورة في السياسة. واذا أراد صاحبنا أن يقنعنا بأن تبني الادارة الأميركية لكل ما تفعله وتتمناه اسرائيل ـ من تأييد عمليات الاغتيال والتدمير في فلسطين إلى وعد بوش ـ هو من قبيل المحبة الخالصة، والتبرع لوجه الله تعالى، فإن هذه هي الخرافة بامتياز، ولتبرير تلك الخرافة، فإنني أنصح الكاتب بأن يطلع على التقرير المفصل الذي نشر في اسرائيل عن «رجالنا في البيت الأبيض»، حتى لا يدافع عن اسرائيل في أمر تعترف به ولا تنكره.
أخيراً فإن الشعور بالدهشة يعاود المرء حين يقرأ الزعم بأن واشنطن قدمت عدة مبادرات «معقولة» لتسوية القضية الفلسطينية، لكنها لم تستقبل على نحو ايجابي من جانب الفلسطينيين والعرب. ذلك أن هذه مزاعم روجت لها العناصر الصهيونية في الادارة الأميركية والأبواق الاسرائيلية، ان شئت فقل انها من الخرافات والأساطير التي جرى الترويج لها، لإلقاء اللوم على الفلسطينيين والعرب، واتهامهم بالتشدد والتطرف. اذ لم يثبت من أي باب أن الأميركيين قدموا يوماً ما عرضاً جاداً في هذا الصدد يمكن أن يوصف بالمعقولية من وجهة النظر العربية وليس الاسرائيليين. لذلك فانني أخشى أن يكون الأمر قد التبس على الكاتب فحكم على المبادرات الأميركية من خلال القراءات الاسرائيلية وليست العربية.
ماذا قال كتاب «صناعة الكراهية في العلاقات العربية الأميركية» في تحرير المسألة؟
من أسف أنني مضطر للاختصار الشديد في الحديث عن مضمون الكتاب لأسباب أرجو أن تكون مفهومة. لذلك فانني سأعرض لبعض الأفكار الأساسية التي تضمنتها أبحاث الكتاب وليس كلها، من هذه الأفكار ما يلي:
* ان الكراهية لم تكن من سمات التعامل العربي مع الولايات المتحدة في أي وقت، لأن العكس هو الصحيح. فصورة الولايات المتحدة في الوجدان العربي منذ القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين كانت ايجابية الى حد كبير، على العكس من رأي العرب في بريطانيا وفرنسا وايطاليا، وألمانيا إلى حد ما، بالتالي فالأصل في العلاقات العربية الأميركية كان الثقة وليس الكراهية. حتى أن أهالي سوريا وفلسطين طالبوا عند نهاية الحرب العالمية الأولى، ان تكون الولايات المتحدة هي الدولة المنتدبة على بلادهم، وليس بريطانيا أو فرنسا، لكن هذه الصورة المتألقة اهتزت ابتداء من منتصف القرن الفائت لسببين، أولهما السياسة الأميركية المنحازة إلى الحركة الصهيونية ودولة اسرائيل، وثانيهما كشف القناع عن النوايا الأميركية لبسط هيمنتها على المنطقة العربية لدوافع استراتيجية واقتصادية ليست خافية. وهذا التصور كان له صداه الضروري في المجتمعات العربية، التي انطفأت في وجدانها الصورة التي تألقت يوماً ما للولايات المتحدة (من بحث للدكتور رؤوف عباس استاذ التاريخ الحديث بكلية الآداب ـ جامعة القاهرة).
* ان العلاقات العربية الأميركية تتسم بازدواجية مثيرة للانتباه، فالمشاعر العربية ترفض السياسة الأميركية، لكنها في الوقت ذاته تحتفظ بقدر كبير من الانبهار بالحلم الأميركي، وهذه الازدواجية تمثل صمام أمان ضد تأصل جذور الكراهية لأميركا، بحيث أن هذه الكراهية التي ولدتها السياسة الأميركية تظل أمراً عارضاً في المشاعر الأميركية، وليست أمر أصيلاً ولذلك فإن العداء الحاصل لا يؤدي بالضرورة إلى رفض الكثير من معطيات الحلم الأميركي، أو طريقة الحياة الأميركية. ورغم التأكيد على وجود الازدواجية، فإنه يخشى أن يؤدي استمرار السياسات الحالية ازاء المنطقة إلى الغاء ذلك التمايز بين السياسي وغير السياسي في الحالة الأميركية، (من بحث حول التفاعلات العربية الأميركية غير السياسية، للدكتور عبد العزيز حمودة، استاذ الأدب الانجليزي وعميد الآداب السابق، والمستشار الثقافي الأسبق لمصر في واشنطن).
* ان الكراهية الحقيقية والأصيلة ليست من جانب العرب تجاه الولايات المتحدة، لكنها صناعة تزدهر على الجانب الأميركي بشكل لافت للنظر، الأمر الذي يقلب المعادلة، ويشير بقوة إلى دور أميركي متنام في اشاعة الكراهية ضد العرب، يتجلى ذلك في «تلفيق» نظرية صراع الحضارات، التي انطلقت من التسليم بأن الصدام لا مفر منه بين الحضارتين الاسلامية والغربية.
ماقاله هانتنجتون في صدام الحضارات ليس سوى غيض من فيض، لأن ثمة جهداً واسع النطاق لتأصيل العداء للعرب والمسلمين في الولايات المتحدة. فمنهم من حاول اثبات التطابق بين العرب والمسلمين وبين النازيين. ومنهم من تحدث عن أن الاسلام ذاته يمثل تربة خصبة للارهاب، وثالث أكد أن المسلمين يكرهون «الآخر» ويرفضون مجرد وجوده، ورابع فصل في العقد التي ملأت حياة المسلمين وجعلتهم يكرهون العالم من حولهم. وخامس أجهد نفسه لكي يثبت أن المسلمين يكنون كراهية شديدة للبرجوازية، أي الطبقة الوسطى. وهذه التعبئة هي التي نجحت في شحن الوجدان الأميركي بالحساسية والنفور من العرب. وما كان لشعب أن يفعل ذلك ازاء أمة لم يعرفها ولم يحتك بها مثل العرب، إلا من جراء كثافة الضغط القوي للتعبئة المضادة، في ظل تجنيد حشد من المفكرين والمعلقين لإشاعة الأكاذيب، والترويج لتلك الصورة النمطية والسلبية. (من بحث للاستاذ جميل مطر، المحلل السياسي ومدير المركز العربي لبحث التنمية والمستقبل).
وللعلم، فعنوان البحث الأخير للاستاذ جميل مطر هو: «الكراهية الأميركية للعرب: صناعة جديدة».