يعتمد كتّاب موقع «الساحات» على الإنترنت على الإثارة، فيختارون عنوانا مثيرا لمقالاتهم ليحفزوا القراء على اختيارها وسط زحمة العناوين والكتّاب الذين يكتبون بدون حسيب او رقيب، والحق أن في الكتابة دون حسيب او رقيب متعة، ولعلها تعبير صادق عما في النفس والعقل، وإن كان في قراءة بعض ما يكتبون هناك ما يدعو للإحباط والقلق إذا اعتبرنا أن هؤلاء يمثلون الرأي العام السائد، وعادة ما اهرب من الساحة فورا عندما يتسرب لي هذا الشعور المحبط، إلى مواقع أخرى متفتحة أحدثها «دار الندوة» كي استعيد الثقة في أن عقلنا المحلي ما زال بخير.
في الأسبوع الماضي كتب أحدهم مقالا عنوانه «هذا ما يجري في فندق (كذا ) في جدة» وقبله بأسابيع كتب آخر «هذا ما يجري في مستشفى ( كذا ) في جدة» لاحظوا أن العجب العجاب يجري دوما في جدة فهي «غير» بحمد الله.
عندما تقرأ العنوان تتوقع فضيحة في الفندق أو مصيبة في المستشفى، ولكن الحقيقة انه في حالة الفندق كان صاحبنا الورع صاحب المقالة قد حل ضيفا على جدة، فاستشاط غضبا من مذياع صالة الفندق الذي كان يبث أغنية لمطرب خليجي «أجاركم الله» والعبارة الأخيرة لصاحبنا وليست لي, أما في حال المستشفى فلقد هال صاحبنا الآخر أن فتاة سعودية سافرة الوجه تستقبله ليداوي ابنه الذي أمرضته شاورما جدواية.
من أين يأتي هؤلاء؟ من قندهار الطالبانية حتى يعجبوا من مجتمع يعيش حياته بشكل طبيعي، ولكن قندهار الطالبانية زالت وعادت قندهار الحقيقية التي يتعبد فيها جل أهلها بعض يومهم، ويسترزقون ربهم جل يومهم، وبعضهم يذنب فيستغفر وبعضهم الآخر يتقاتل أحيانا للآسف، ماذا لو رآنا هؤلاء المتنطعون الأسبوع الماضي في مقهى جدواي أنيق وجديد دعاني أليه أصدقاء ممن شغلتهم الصحافة؟ فأمضينا أمسيتنا في حديث عن الانتخابات البلدية المزمعة والتي أعاد الإعلان عنها التفاؤل والثقة بمشروع الإصلاح الجاري، إلى حديث عن هجمة جديدة على السنة بكتب لا تتوقف تتعرض لصحابة الرسول (عليه الصلاة والسلام) تارة، أو تطعن في إمام علم الحديث البخاري تارة أخرى, ولم يمنعنا من ذلك «شيش العسل» التي انتشرت في كل مكان ولا الفضائيات الغنائية التي تبث غريب الفن فوق رؤوسنا والتي ستكون موضوع مقالي هذا, هل سنكون فسقة فجرة بمقياس هؤلاء؟ من سينجو إذن فحالنا كحال جل الناس، إنني لا أرى في كتابات هؤلاء غير ورع بارد وتزكية للنفس وتشدد في غير مكانه خصوصا عندما يحاولون فرض رؤيتهم الضيقة على المجتمع.
ولكني سأفعل فعلهم، خصوصا ومعاذ الله أن أزكي نفسي، فأتعجب من حالة أخرى متطرفة ولكن على المعسكر الآخر حيث الفضائيات الغنائية العربية، التي سيكون له أثر على مستقبل مجتمعنا وقيم العيب فيه، وحال أبنائنا وبناتنا، ما لم تلتزم بحد ادنى من المسموح، ولا أقول المباح، ولا اعرف لذلك سبيلا في فضاء أفلتته التقنية من أي لزام ولجام.
لقد غبت عن وطني عاما، وعدت إليه في إجازة قصيرة هذا الصيف، وهالني هذا الكم الهائل من «المسخرة» على قنوات الأغاني التي كانت ثلاثا قبل عام وأصبحت تسعاً خلال عام واحد، لتدخل جل بيوتنا التي لا تخلو من «عرب سات» أو «نايل سات» أو كلاهما, أصبحت هذه القنوات حديث الناس الذين يشاهدونها ويعجبون من جرأتها وتجاوزها على الأصول ثم يستنكرون فعلها مثلما ما فعلت، ثم نستمر في مشاهدتها وتقليبها وكأنها إدمان ما فكاك منه، إن فيها لضرراً مثلما في التطرف والإرهاب ضرر.
لا بد أن مخرجيها وكتّاب أغانيها وملحنيها قد درسوا علم النفس فوظفوا «مطربتهم» بما لديها من «مؤهلات» لاستثارة تلك المشاعر الكامنة في «النفس الأمارة بالسوء» خصوصا لدينا نحن معشر الذكور، وبحثوا عن «الفانتسيز» التي نتكتم عليها خجلا من افتضاحها, فهاهي هيفاء وهبي تثير الرغبة الخفية في الحرام مع «الشغالة الطروب» والتي ما تفتأ بغمزة وهمسة ولفظة تحمل الف معنى تعاكس بها رجل البيت وسيده، لم تكن تلك أغنية إنما فعل فاضح، ولابد أن هناك قانونا ما يعاقب عليه حتى في اكثر أوطان العرب ليبرالية وانفتاحا, انه ليس بفن وإنما إثارة لئيمة لعلها افضح واكثر وقعا من أفلام العري والجنس الصريحة، فهذه سلعة معروفة وغير متوافرة في «الفضاء العام» إلا باشتراكات وبطاقات، وملاه ومتاجر جنس في الغرب، انه عالم يدخله من يدخله وهو مدرك لما يتوقع أن يراه، عارفا بذنبه وفعله الذي يتم خلف أبواب مغلقة.
اما روبي وهيفاء وهبي ونانسي عجرم فنشاهدهن في السهرات العائلية وحولنا بناتنا وأولادنا، ولرفع العتب يصرخ أحدنا في منتصف العرض أو ما يصح تسميته الجلسة النفسية «خلاص,,, غيروا القناة، هذه حرمة ما تستحي!».
الأمر الخطير الآخر أن هذا «الفيديو كليب» يزور عالمنا الحقيقي ويفرض علينا صورة غير صحيحة، فتشركنا نحن العامة في عالم متسيب لا نعرفه ولا نعيشه، مثل تلك الأغنية التي تجري أحداثها في أوتوبيس أو عربة قطار وفجأة يتحول الركاب المساكين إلى راقصين ومطبلين ومزمرين، تقف إحداهن راقصة بملابس خليعة وسط الرجال وصناديق الفاكهة والفراخ، بينما تصفق لها طربا سيدة أربعينية محجبة ممكن أن تكون والدة أو زوجة أي منا.
نعرف أن بعضا من هذه الخلاعة تحصل ليليا في ملاهي القاهرة وبيروت برعاية خليجية في العادة، ولكنها لا تحصل في شوارعها حيث يعيش المواطن العادي المطحون، وليس كما في رؤية المخرج «الفنية», هل هي محاولة لإزالة ذلك الفاصل بين رغبات النفس الأمارة بالسوء والحقيقة؟ كيف سيؤثر كل ذلك علينا؟ هل هو اكبر تحد يواجه التدين والانضباط بالخلق الإسلامي؟
لقد كان هناك دوما قدر من «الخلاعة» في تاريخنا الإسلامي ولكن في حدود يحدها المال والقدرة والمكان والزمان, ولكن كم الخلاعة الذي ينتشر ويزداد باستمرار ويرخص ويصبح متاحا لطبقات اكثر، والأخطر انه ناطق بلساننا وأجسادنا فيحيط بنا، فلا تقفل بابا إلا وقد جاءك من باب آخر, ماذا نفعل؟ هل نستسلم ونعتبرها إفرازاً طبيعياً للعولمة والانفتاح والتقنية؟ ام أننا بحاجة إلى موقف شجاع يتسلح بالدين والأخلاق ويعزز بالقانون.