آخر ما يحتاج اليه العراق هو «شهيد» آخر. منذ بدء المعارك الأخيرة في النجف نجحت الحكومة (الموقتة) في جعل مقتدى الصدر شهيداًَ حياً. ومع تضييق الحصار عليه أمس الى آخر حد، وسواء وقع في قبضة المهاجمين الاميركيين والعراقيين قتيلاً أو سجيناً، فإن هذه الحكومة نجحت ايضاً في صنع اسطورة مقتدى وتكبيرها بل ترسيخها في الأذهان.
واذا لم يعثر عليه هناك في المربع الصغير المحاصر داخل المسجد، فإنه سيختفي لفترة ثم يعود فيظهر، ليدخل الحكومة في مرحلة احراج أخرى، خصوصاً اذا تمكن من نقل المعركة ومن فرض تحدٍ آخر لعراقيي الحكم وللأميركيين.
دخول آية الله علي السيستاني على الخط، وسفره السريع المفاجئ واستعداده للعودة الى النجف، ربما شكلت خطوة أولى في بلورة حل واقعي وعقلاني يحد من التداعيات المستقبلية السلبية شيعياً، وعراقياً. لا شك ان دعوة السيستاني الى العراقيين للذهاب الى النجف «لانقاذها»، ليست دعوة الى حمل السلاح والقتال، بمقدار ما هي موقف يرمي الى ردع الجميع ومنع نهاية كارثية للمعركة سيكون على المرجعية، وعليها وحدها، ان تتحمل نتائجها.
ما حصل حتى الآن تجاوز، في رأي المرجعية، كل خط أحمر. عدد القتلى يعادل مذبحة من تلك المذابح التي كان صدام يتوق اليها. حجم الدمار في حرم المنطقة المقدسة بات كبيراً جداً. والطرفان بلغا ما يمكن وصفه بنقطة اللاعودة. لكن انهاء هذه المعركة بقوة السلاح، حتى لو عنى انتصاراً للحكومة، لن يعني نهاية المأزق وانما بداية مجددة له. كان على الحكومة امس ان تقرر الاحتكام الى مرجعية السيستاني، أو تصمم على اكمال ما بدأته أملاً في تغليب «منطق الدولة».
هذا «المنطق»، الذي يفترض ان يعبر عادة عن مصلحة الجميع في البلد، يعاني في العراق من طبيعة الدولة الناشئة. والمسألة هنا لا تتعلق بآراء سياسية شخصية أو باعتبارات فئوية، وانما بالواقع كما هو وكما يعاش وكما ينظر اليه من جانب الفئات كافة. لا داعي للتذكير بالشرعية غير المكتملة، ولا بدور سلطة الاحتلال في اختيار الوجوه وتنصيبها، ولا بالسطوة والنفوذ اللذين لا تزال «سلطة الاحتلال» (السابقة؟!) تتمتع بهما على نحو يستشعره العراقيون. كانت تلك السلطة غاشمة لأنها كانت تجهل الحقائق ولأنها بعدما تعرفت اليها فضلت تجاهلها. كان المهم ولا يزال ان تتميز الحكومة فتتصرف على نحو يجنبها ويجنب العراق أعباء اقتتال كان يمكن استبعاده بالسياسة. فأسهل الخيارات هو ارسال أفراد من «الحرس الوطني» في مؤخر الاميركيين، وانتدابهم لهجمات يفضل الاميركيون ان لا يتولوها بأنفسهم.
ومع نوعية الأسلحة المستخدمة لم يُترك لأحد امكان التصديق بأن مهمة العراقيين هنا تتجاوز رفع الجثث وعدّها. واذا كان المكان يعتبر «مقدساً» هل هناك فارق حقيقي بين من يدنسه ومن ينتهكه ومن يدخله. سبق للأميركيين ان تدربوا «نفسياً» في حصار الاسرائيليين لكنيسة المهد، وسبق للاسرائيليين ان كسروا مراراً الحواجز «الأخلاقية» بانتهاك المسجد الأقصى وكل مسجد في فلسطين المحتلة.
في مقابل ما يتفوه به وزير الدفاع العراقي، معبراً عملياً عن موقف «الدولة»، بدا السيستاني امس اكثر حرصاً على «منطق الدولة» ومصلحتها من وزراء هذه «الدولة» وممثليها. فالقهر ممكن أما الاخضاع فمسألة اخرى. والوضع في العراق، شاءت الحكومة أم أبت، لا يزال وضعاً خاصاً ينبغي تفهمه والتعامل مع تفاصيله بحرص وصبر وحذر. انه الأرث الصدامي يتمظهر هنا وهناك بأشكال شتى، والمحك الحاسم يكمن في ان لا يعالج بالأسلوب الصدامي نفسه. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم ينجح أي وقف لإطلاق النار؟
لم يكن هناك أي جواب واضح ومقنع من الجانب الحكومي سوى ان «الدولة» لن تتنازل للمتمردين. مبدئياً، هي على حق. عملياً، تعرف الحكومة ان الأمر ليس على هذه البساطة، بدليل انها في أوج المعركة كانت تطالب المتمردين بـ«الانضمام الى العملية السياسية». هناك اذا حلقة مفقودة.
التعليقات