ذكر أكثر من مصدر إعلامي أنه لدي اجتماع الرئيس بوش باللجنة المصغرة من أركان إدارته في اليوم الثالث لتفجيرات واشنطن ونيويورك في 11 سبتمبر / أيلول 2001 تساءل وما العمل؟ فكان الجواب الفوري لوزير الدفاع رامسفيلد: نضرب العراق. وحين تساءل الرئيس ولم العراق؟ أجاب الوزير: لأن خطة ضربه جاهزة وإمكانية النجاح فيها مؤكدة. وفيما نقل عن رامسفيلد دلالة استهانة واضحة ليس فقط بإمكانيات وقدرات العراق وإنما أيضاً علي انعدام الشعور بالقلق تجاه ردات الفعل العربية المحتملة علي العدوان. وما كان وزير دفاع الدولة فائقة النشاط الاستخباري ليصدر عنه ما قاله لولا أن الإدارة الأمريكية، بكل مؤسساتها وأجهزتها، كانت علي قناعة يقينية بأن المنطقة العربية باتت فاقدة المنعة تماماً.
غير أن ما لم يأخذه وزير الدفاع الأمريكي في حسبانه أن ليس من حرب في تاريخ البشرية توقفت نتائجها علي ما هو متوفر لطرفيها من إمكانيات مادية وقدرات بشرية فحسب، وإنما كان للإرادة الإنسانية دورها الفاعل. وفي كل صراعات الشعوب مع الغزاة كان الخلل في الإمكانيات المادية والقدرات البشرية لصالح الغزاة، ولكن الصراع في جميع الحالات كان يدور فيما بين تفوق المعتدي بالعدة والعتاد وبين إرادة المعتدي عليه وكفاءته في تطوير مقاومته وقدرته علي الصمود. ولم تخرج المعركة التي فرضت علي شعب العراق عن القانون ذاته.
وإذا كانت قوات التحالف بقيادتها الأمريكية قد حسمت المعركة مع نظام صدام حسين خلال ثلاثة أسابيع، محققة نصراً سهلاً وبتكليفة بسيطة للغاية، إلا أنها لم تظفر بمثل ذلك علي صعيد شعب العراق الذي أكد ومنذ اليوم الأول للغزو عمق التزامه الوطني وعميق إدراكه لدوافع وغايات الغزاة ولم يخدعه خوضهم العدوان عليه تحت شعار "الحرية للعراق"، ودلل ومنذ اليوم الأول علي هامشية دور زمر المعارضة التي رعتها أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية وتصورت أن لها ما يؤهلها للعب دور في عراق ما بعد صدام.
وخلافاً لما كانت قد روجته أجهزة الإعلام الأمريكية وسوقته رموز المعارضة العراقية من أن شعب العراق، بتأثير معاناته في ظل نظام قامع لإرادته وشعوره بالعجز عن إزاحة كابوسه عن عاتقه، بات مستعداً لاستقبال "محرريه" بالترحاب، وقد باتت غالبية نخبه قابلة بما يرسم له في دوائر صناعة القرار الأمريكي. فمظاهرات الترحيب بالقوات الأمريكية لدي دخولها بغداد عصر الأربعاء التاسع من أبريل / نيسان 2003، التي عرضت علي شاشات الفضائيات يومذاك لم تكن بالشيء الذي يذكر بالنسبة لمواطني عاصمة تتراوح تقديراتهم بين الأربعة والخمسة ملايين. وفي ذلك البرهان العملي علي أن غالبية شعب العراق الساحقة، ومن مختلف الانتماءات، لم تنظر للغزاة باعتبارهم رسل تحرير وبناة ديمقراطية وتنمية شاملة وإنما رأت فيهم رموز إمبريالية عالمية غايتها استغلال العراق موقعاً وموارد وقدرات بشرية في خدمة مصالحها الكونية وطموحاتها الإمبراطورية.
ولم تشهد أي من مدن العراق وقراه وبواديه الانتفاضة الشعبية التي طالما تحدثت زمر المعارضة عن حتمية تفجرها في وجه النظام ما إن تندلع الحرب. الأمر الذي يدل علي أن نخب وجماهير العراق تمتلك درجة عالية من الحس الوطني، بحيث أنها ارتفعت علي جراحها ولم تغدر بالنظام في ساعاته الحرجة، وإنما تقدم عند غالبيتها الساحقة الشعور بالمسؤولية التاريخية علي شهوة الانتقام. وبذلك أسقطت كل رهانات الغزاة. كما أنها بذلك أكدت زيف ادعاءات زمر المعارضة وهامشية دورها في الحياة العراقية.
ولم يتدفق اللاجئون العراقيون علي المخيمات التي نصبت علي حدود العراق في بعض الأقطار المجاورة. وعلي العكس من ذلك اندفع آلاف العراقيين المتواجدين في بعض تلك الأقطار عائدين للعراق ولسان حالهم يقول لنشارك شعبنا ما يواجهه. وفي العودة السريعة وغير المتوقعة دلالة عمق تعلق المواطن العراقي بأرضه ومدي استعداده للوفاء بواجبه الوطني. ولا يطعن هذه الحقيقة عدم عودة مئات ألوف العراقيين من الولايات المتحدة وأوروبا. إذ في عدم عودتهم ما يدل علي أن دافعهم الأول للهجرة إنما كان تطلعهم لحياة أكثر رغداً في المهجر فضلاً عن عدم اطمئنانهم لمستقبل العراق بعد الحراب.
وبمقدار ما أوضحت أحداث السبعة عشر شهراً الماضية خطأ قراءة إدارة المحافظين الأمريكيين الجدد لواقع العراق، وبالتالي فشلها في جعله قاعدة من قواعد تحقيق طموحها الإمبراطوري بقدر ما كشفت زيف ادعائها السعي للإصلاح السياسي وإشاعة الديمقراطية في الوطن العربي والعالم الإسلامي. وهذا ما توضحه بجلاء تام قراءة بعض معالم المشهد العراقي.
فالمقاومة العراقية لم تتميز فقط بسرعة انطلاقتها وإنما تميزت أيضاً بتصاعد تطورها الكيفي سواء من حيث نوعية العمليات أو سعة الانتشار وتعدد انتماءات العناصر والقوي المشاركة فيها. وعلي الرغم من التعتيم الإعلامي الشديد الذي تفرضه قوات الاحتلال فإن ما يتسرب من أخبار المقاومة يدل علي بلوغ العمليات مستوي من كفاءة الأداء ما كان بالمستطاع تحقيقه لولا أن بين من هم وراءها مهندسون مختصون علي درجة عالية من الاختصاص. وفضلاً عن ذلك لم تبق عمليات المقاومة محصورة فيما كانت تسميه قوات الاحتلال "المثلث السني" وإنما امتد مسرحها ليشمل غالبية أراضي العراق من البصرة جنوباً وحتي الموصل شمالاً.
وبصرف النظر عما قد ينجلي عليه الموقف في النجف فإن الانتفاضة الشعبية التي فجرها مقتدي الصدر في الوسط والجنوب، لم تؤد فقط إلي انخراط قطاع واسع من النخب والجماهير الشيعية في المقاومة، وإضفاء الطابع الوطني عليها، وإنما أحدث أيضاً إرباكاً متسارع الانتشار في صفوف النخب القائدة لما أطلق عليه "البيت الشيعي"، والذي كان التوجه الغالب لصناع قراره اعتماد المساومة لا المقاومة خياراً استراتيجياً، والأخذ بسياسة "خذ وطلب" في التعاطي مع قوات الاحتلال. فضلاً عن كون انتفاضة الصدر وجيش المهدي أثارت تساؤلات في الشارع الشيعي، في العراق وخارجه، حول مواقف المرجعيات تجاه ما يجري علي أرض العراق. بل وأشارت وكالات الأنباء إلي قيام مظاهرات مضادة لأحد أبرز تلك المرجعيات بسبب صمته تجاه العدوان علي النجف الأشرف والذائدين عن حمي مرقد الإمام علي كرم الله وجهه.
ويقيناً أن الإدارة الأمريكية المسكونة حتي النخاع بغطرسة القوة، لن تبدي أي قدر من التساهل مع انتفاضة مقتدي الصدر وجيش المهدي. وهناك أكثر من عامل يحول دون قبولها بأي تسوية تبقي للصدر أي دور سياسي ما دام وفياً لما أعلن الالتزام به من حرص علي حرية العراق واستقلال قراره.فالإدارة التي تعيش واقعاً شديد الحساسية في الشهور الأخيرة من معركتها الانتخابية تدرك أن أي تساهل في العراق ستكون له انعكاساته السلبية. ثم إن إدارة المحافظين الجدد تري في العراق قاعدة انطلاق عملية التغيير الجذري في الوطن العربي، باتجاه إقامة "الشرق الأوسط الكبير" بإدارة إسرائيل. باعتبار ذلك سبيل توظيف إمكانيات الأقطار العربية والإسلامية وقدرات شعوبها لتعزيز القطبية الأمريكية. وما كانت الإدارة التي حشدت في المنطقة ربع الجيش الأمريكي أو يزيد، وتحدت إرادة المجتمع الدولي، لتمتنع عن ممارسة أقسي درجات إرهاب الدولة ضد مقاومة تري فيها تهديداً خطيراً لمشروعها الإمبراطوري وطموحها لتأصيل تحكمها في صناعة القرار الأمريكي.
والحال كذلك بالنسبة لأركان الحكومة المؤقتة في العراق، الذين يرون في الصدر وجيش المهدي التهديد الأكبر لحاضرهم ومستقبلهم، والذي يستشف من المؤتمر الصحفي الذي عقده الدكتور علاوي ووزيرا الدفاع والداخلية أنهم في معركة حياة أو موت مع الصدر والملتفين حوله. وليس من المغالاة في شيء القول بأن غالبية أقطاب "البيت الشيعي" إن لم يكونوا جميعهم، لا يقلون عن إياد علاوي وأركان وزارته حماساً لحسم المعركة بما ينهي القائد المشاكس سياسياً واجتماعياً، وبحيث لا يظل متميزاً عنهم بموقفه الوطني، ومؤثراً بالسلب بما تبقي لديهم من رصيد طائفي.
وتشهد الساحة العراقية تطوراً في غاية الأهمية والإيجابية علي محور القوي السياسية الرافضة للاحتلال، وإن لم تشارك عملياً في المقاومة المسلحة، وإنما تشكل رديفها السياسي. ولقد تواترت الأخبار عن حوارات جادة تستهدف توحيد القوي قومية الانتماء والتوجه: الناصرية، والقومية العربية، وذات الخلفية البعثية، والمستقلة، وإن حواراتها لإقامة الجبهة القومية تنطوي علي احتمالات واعدة. كما تواترت الأنباء حول النجاح في إقامة التحالف القومي- الإسلامي، الذي يضم مختلف قوي التيارين الملتزمة بالثوابت الوطنية والقومية. فيما بات مؤكداً أن عناصر تركمانية وكردية متحررة من الارتباطات الخارجية تقيم علاقات نضالية مع التحالف القومي - الإسلامي، مؤكدة التزامها بحرية العراق واستقلال إرادته.
وحين يؤخذ في الحسبان ما خلفته صراعات عقود ما بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958 من ثارات وذكريات أليمة تتضح الأهمية النسبية للتفاعلات الإيجابية المتنامية في أوساط النخب السياسية العراقية متعددة الانتماءات، والتي عانت الشيء الكثير من صراعات الاخوة - الأعداء. وإنه لإنجاز تاريخي بكل المقاييس أن يشهد العراق حواراً ديمقراطياً منتجاً فيما بين رموز حركات خاضت صراعات دامية، مسقطة بذلك كل رهانات قوي الغزو علي تفجر الحرب الأهلية علي خلفية صراعات الأمس وثاراته.
وليس من شك أن معاداة العروبة، والدفع باتجاه إبراز الولاءات دون الوطنية: العرقية والطائفية والعشائرية لما يزالا يحتلان حجر الزاوية في استراتيجية التحالف الإمبريالي- الصهيوني وأدواته المحلية في كل قطر عربي بشكل عام، وفي العراق بشكل خاص. غير أن فشل قوي الاحتلال بقيادتها الأمريكية في انتزاع قبول شعبي واستكانة لواقع الاحتلال، وعجزها عن توظيف قرارات مجلس الأمن في إضفاء المشروعية علي واقع غير مشروع في نظر القانون الدولي. هذا العجز وذلك الفشل اضطرا الإدارة الأمريكية إلي نشدان المشروعية عند النظام الرسمي العربي. وبعد محاولات عزل العراق عن محيطه والقول بحق العرب والجامعة والدول العربية ما لم يقله مالك في الخمر، غدت الجامعة والدول العربية هي الموئل والملاذ. فلديها سعي أركان "مجلس الحكم" ثم "الوزارة المؤقتة". وفي هذا السعي إقرار ضمني من الساعين ورعاتهم بعمق انتماء العراق لأمته وأهمية هذا الانتماء في منح نظامه المشروعية في نظر غالبية مواطنيه.
وعلي خلاف ما نصت عليه اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949 فيما يتصل بإدارة المناطق المحتلة، وضرورة الحفاظ علي الأمن والاستقرار فيها، ورعاية مصالح المواطنين تحت الاحتلال، وصيانة المؤسسات العامة والخاصة وما تحتويه من مستندات. وفي تناقض تام مع تلك الالتزامات المعتمدة دولياً لم تول قوات الاحتلال أدني اهتمام لأي مؤسسة أو وزارة أو شركة خاصة، فيما عدا آبار النفط والوزارة القائمة بشؤونه. ولقد جرت عملية تدمير متعمدة لقواعد الدولة العراقية وليس لمؤسسات النظام فحسب. فالجيش وقوي الشرطة والأمن والاستخبارات حلت وسرح منتسبوها، والوزارات والمؤسسات والجامعات والمتاحف أبيحت للنهب والحرق وعبث العابثين فضلاً عن سطو المحترفين علي كنوزها الهامة.
ولم يكن ذلك عفوياً، وإنما أريد به إحداث حالة من الفوضي الشاملة وانعدام الأمن والأمان، بحيث يضطر الشعب الذي اتخذ موقفاً سلبياً من الغزاة اللجوء إليهم طالباً تصديهم للفوضي الضاربة أطنابها، ولكي تضطر بعض الزعامات والشخصيات ذات الاعتبار القبول بالتعاون مع قوات الغزو، وفي ظنها أنها تؤدي خدمة اجتماعية، بل وتري في استتباب الأمن في ظل الاحتلال إنجازاً وطنياً. وبالتبعية لا تبقي ممتنعة عن الانخراط في عضوية ما يقيمه من مؤسسات، أو المشاركة في صياغة ما يوصي به من قوانين وقرارات تنظم حياة المواطنين تحت الاحتلال، وبحيث تضفي علي إجراءات الاحتلال مظهراً ديمقراطياً هي باليقين فاقدته، لصدورها عن مؤسسات أقامها الاحتلال أو بإيعاز منه، فضلاً عن غياب العملية الانتخابية في تشكيلها.
وكان طبيعياً وقد استشرت حالة الفوضي وانعدام الاستقرار والأمن، أن تكثر في العراق المحتل الجرائم علي اختلافها، وأن لا يلقي المجرمون من يردعهم. وإذا كانت بعض العمليات الإجرامية قد شكلت تشويهاً للعمل المقاوم، فإن مثل هذه العمليات المشبوهة لا يستبعد صدورها عن أجهزة وعملاء المخابرات الأمريكية والصهيونية والموجهة أمريكياً. وضمن هذا السياق ينظر للاعتداءات المدانة علي الكنائس بصفة خاصة. إذ ندرت للغاية مثل هذه العمليات الإجرامية في العراق، بحيث تمتع مسيحيو العراق بالأمن والأمان وبأدوار في مختلف نواحي الأنشطة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية تتجاوز بكثير نسبتهم العددية كمواطنين. وذلك ما كان واضحاً بجلاء في مرحلة ما قبل الاحتلال، بحيث يغدو مبرراً اعتبار قوات الاحتلال المسؤولة تاريخياً وأخلاقياً عن التعدي الآثم علي الكنائس الست في يوم واحد.
ويظل من أبرز معالم المشهد العراقي تشكيل ما سمي تجاوزاً "المؤتمر الوطني" والذي هو فاقد هذه الصفة بامتياز. إذ امتنعت عن المشاركة في عضويته مختلف القوي الوطنية والإسلامية. فضلاً عن انسحاب العديد ممن شاركوا في عضويته علي خلفية موقفه من العدوان الآثم علي النجف الأشرف والتباس موقف صناع قراره من انتفاضة مقتدي الصدر وجيش المهدي و"المؤتمر" كما "الوزارة" و "نظام الحكم خلال المرحلة الانتقالية" الذي سبق أن صيغ باسم "مجلس الحكم" جميعها، ومن غير استثناء، فاقدة المشروعية الوطنية والدستورية. وذلك لأنها جاءت في مرحلة اغتصاب إرادة شعب العراق. ثم إنها صدرت عن هيئات غير منتخبة أصولياً. وكذلك الحال بالنسبة لكل ما قد يصدره المؤتمر إياه من قرارات وأنظمة وما سوف يترتب عليها من إجراءات بما في ذلك انتخابات مطلع العام 2005.
وقراءة المشهد العراقي في ضوء حصاد الشهور السبعة عشر الماضية تدل علي أن كلاً من المقاومة والقوي السياسية الرافضة للاحتلال قد حققتا إنجازات لم تكن متوقعة. الأمر الذي يعني أن الإدارة الأمريكية لم تحقق مشروعها الاستعماري في العراق. إلا أنه غير دقيق القول بأن الأمريكان غرقوا في المستنقع العراقي، مثل ما كانت عليه حالهم في فيتنام. ذلك لأن المناخ الإقليمي والدولي وظروف الإدارة الأمريكية اليوم مختلفة كيفياً عما كانت عليه الحال في ستينات القرن الماضي، ومازال أمام شعب العراق زمن من المعاناة غير قصير. وإن كان عطاؤه خلال الشهور السبعة عشر الماضية يجعل مبرراً القول بأن في أفق العراق احتمالات واعدة، وإن طال زمن المقاومة والمعاناة وعظمت التضحيات.