كان مهماً أن تحصل مصالحة بين رئيس السلطة الوطنية ياسر عرفات ورئيس الوزراء السابق محمود عباس (أبو مازن) والعقيد محمد دحلان الذي كان وزيراً في حكومة الأخير. كذلك كان مهماً أن يلعب أحمد قريع (أبو علاء) رئيس الوزراء الفلسطيني دوراً في تحقيق المصالحة وذلك بعد سنة من استقالة حكومة "أبو مازن" لأسباب إسرائيلية وفلسطينية في آن.
ما يجمع بين كل هذه الشخصيات التي فرّقتها الأحداث هو اتفاق أوسلو الذي أمكن التوصل إليه قبل أحد عشر عاماً في آب من العام 1993 بفضل جهود "أبو مازن" و"أبو علاء" ومعهما ياسر عبد ربه والدكتور نبيل شعث وغيرهم بغطاء من ياسر عرفات الذي ما لبث أن قطف ثمار الاتفاق.
بفضل أوسلو استطاع "أبو عمار" العودة الى أرض فلسطين وبفضل أوسلو كان لفترة معيّنة أول زعيم في تاريخ الشعب الفلسطيني يستعيد أرضاً، وذلك قبل أن تعود إسرائيل الى ابتلاع الأرض. وبفضل أوسلو دخل "أبو عمار" البيت الأبيض وكان في العام 2000، أى في السنة الأخيرة من عهد الرئيس بيل كلينتون أكثر زعماء العالم تردداً على واشنطن وعلى مقر الرئيس الأميركي بالذات.
بعد ذلك انهار كل شيء واستطاع آرييل شارون، الذي وضع نصب عينيه الانتهاء من أوسلو، تحقيق أهدافه وعلى رأسها قطع العلاقة بين واشنطن و"أبو عمار" الذي عليه الآن إعادة حساباته والذهاب الى النهاية في إجراء عملية نقد للذات تتجاوز الاعتراف بحصول أخطاء. فهذه الأخطاء يجب أن تحدد وألا تبقى مجرد كلام عام ذلك أن الأخطاء المعروفة يمكن أن تعالج فيما الأخطاء المبهمة تظل كلاماً أقرب الى المصالحات العربية التي تتوّج بتقبيل اللحى على أن يعيد ذلك كل فريق الى قواعده ويعمل في الخفاء على طعن الفريق الآخر في الظهر.
إلتأمّ شمل الذين توصلوا الى أوسلو. وإذا كان من درس يمكن الخروج به من كل الخلافات والتجاذبات والصدامات التي شهدتها السنوات الأربع الأخيرة منذ لحظة انفراط قمة كامب ديفيد التي جمعت عرفات مع الرئيس كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك إيهود باراك، فإن هذا الدرس يتلخّص بأن الفريق الفلسطيني، الذي صنع أوسلو، في حاجة مستمرة الى "أبو عمار". أما الزعيم الفلسطيني نفسه فهو في حاجة الى هذا الفريق الذي يشكل جسره الى المنطقة والعالم. وبكلام أوضح هناك كثيرون من العرب لا يثقون سوى بـ"أبو مازن" لأنه يعني كل كلمة يقولها أي أنه عندما يقول نعم يعني نعم، وعندما يقول لا يعني لا. كذلك الأمر بالنسبة الى الغرب، أي الى الأميركيين والأوروبيين. ولكن في مقابل ذلك، هناك إدراك في الأوساط العربية والأوروبية والأميركية لواقع يتمثل في أن "أبو مازن" لا يمتلك قماشة الزعامة ولذلك لا يمكن أن يحل مكان "أبو عمار". وما ينطبق على "أبو مازن" ينطبق أيضاً على "أبو علاء" مع فارق أن الأخير يمتلك من المرونة ما يمكنه من التعايش مع الرئيس الفلسطيني على العكس من "أبو مازن".
في حال استطاعت "فتح" الانتقال من حال الهدنة الداخلية الى حال العودة الى العمل كفريق واحد، سيشكل ذلك خطوة مهمة الى أمام في مواجهة استحقاقات المرحلة المقبلة، خصوصاً التغيرات التي تشهدها السياسة الأميركية في عهد بوش الإبن الذي باتت إدارته على قناعة بأن بعض مستعمرات الضفة الغربية يجب أن يبقى. ومعنى ذلك أن لا عودة الى حدود 4 حزيران 1967 في الضفة.
ان هذا التحدي يمثل الخطر الأكبر على القضية الفلسطينية في الأشهر الفاصلة عن موعد انتخابات الرئاسة الأميركية، ذلك أن آرييل شارون الذي يطالب بدعم أميركي من أجل الخروج من قطاع غزة يمكن أن يستغل المواقف الأميركية الجديدة من مستعمرات الضفة الغربية بهدف فرض أمر واقع يؤدي الى تكريس الاحتلال ومنع قيام دولة فلسطينية "قابلة للحياة". ولا شك أن "الجدار الأمني" الذي يخترق الضفة الغربية ويقطع أوصالها جزء لا يتجزأ من مشروع شارون، بل يمكن وصفه بأنه عموده الفقري. والأكيد أن مواجهة هذا المشروع لا تكون إلا بلملمة الأوضاع الداخلية الفلسطينية، خصوصاً استعادة "فتح" لحيويتها مع ضرورة معالجة ذيول محاولة الاغتيال التي تعرّض لها السيد نبيل عمرو وزير الإعلام في حكومة "أبو مازن".
في الأسابيع المقبلة، سيتبيّن ما إذا كانت المصالحة بين "أبو عمار" من جهة و"أبو مازن" ومحمد دحلان من جهة أخرى مصالحة حقيقية، ولكن ما يبعث على بعض التفاؤل أن "أبو عمار" بدأ يدرك أن لديه مصلحة في إعادة تفعيل فريق أوسلو، لأنه من دون هذا الفريق لم يشهد الوضع الفلسطيني إلا التراجع. فسار من سيئ الى أسوأ في غياب أي قدرة على التعاطي مع واشنطن التي لا تزال الطرف الوحيد القادر على التأثير في السياسة الإسرائيلية. سار الى أسوأ في وقت نسي العالم أن هناك قضية اسمها القضية الفلسطينية هي قضية شعب يريد الانتهاء من الاحتلال لا أكثر ولا أقل.
- آخر تحديث :
التعليقات