القاهرة من محمد أبوزيد: اذا كان الخوارج تاريخيا هم الذين خرجوا من شيعة الامام علي بن أبي طالب عليه رافضين التحكيم، فان الخوارج الجدد الذين تقدمهم عبلة الرويني في كتابها الجديد «الشعراء الخوارج»، الصادر أخيرا عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، هم قوس جمالي يتباين شعراؤه بالضرورة وباشكال خروجهم، كل بحسب بيئته وتكوينه ومشروعه.
واذا كانت الرويني تصف هؤلاء الشعراء بالخوارج فانها لم تحدد أسباب اختيارها لهؤلاء الشعراء بالذات من دون غيرهم وما هي الآليات التي اتبعتها في الاختيار ولماذا هذه التسمية. الملحوظة الثانية على الكتاب هي انه تجميع لمقالات وحوارات نشرتها الرويني في الصحف والمجلات عن ومع بعض هؤلاء الشعراء، وهي حوارات ومقالات يغلب عليها الانطباع الشخصي وتفتقد النظرة العلمية والمساءلة النقدية الصحيحة. وتسعى الرويني عبر الكتاب الى تفريغ كلمة «الخوارج» من مضمونها السياسي لإلصاقها بهؤلاء الشعراء الصداميين باعتقادها، في الوقت الذي لا تتحاشى فيه الحديث عن مجابهة عبدالمنعم رمضان لما هو عام وعمومي وخروجه المستفز على المعنى والوظيفة والايديولوجيا، وهو عنف يشبه عنف مقاومة احمد طه لكل ما هو قومي وعروبي، وهو سجال ـ في اعتقادها ـ جارح ووحشي.
كما تبدو لفظة «الحداثة» مضطربة في فهم الرويني، فهي تعلن انحيازها الصريح الى حركة الشعر العربي الحديث والى القصيدة الجديدة على اختلاف رؤاها، ثم تقول انه على الرغم من حضور الحداثة كعنوان للحركة الشعرية الآن، إلا ان حضورها محاط بالأسلاك الشائكة فهي حداثة ملتبسة ومتناقضة، يمزقها وعي شقي وازدواجية عاصفة، وبنية اجتماعية سياسية، غير قادرة على تحقيق التراكم المعرفي والعلمي، ازدواجية ساهمت في تعميق مأزق القصيدة، وغربة كثير من الشعراء بين طوباوية متعالية أو عدمية معزولة ومنعزلة.

* دنقل وأدونيس ودرويش

* أول الشعراء الخوارج الذين تقدمهم الرويني هو أمل دنقل ـ بالطبع ـ زوجها الراحل، الذي «ألح على التجربة كمقابل لاسقاط التجريد، فهي التحقق العيني للانخراط في التاريخ، ففي «العهد الآتي» كان اتجاه القصيدة نحو اعلاء قيمة الدخول في التجربة قيمة جوهرية داخل الديوان، وهو تحرك من المطلق السلطوي الى النسبي المشروط وانتقال من جمالية المشابهة والسكون الى جمالية الاختلاف والحركة من أجل إعادة الاعتبار لكلية الحضور الانساني».
ولذلك تظل الحرية ـ والكلام للرويني ـ جوهر ما يبحث عنه أمل دنقل طوال تجربته الشعرية، فهي صاحبة السيادة والأولوية المطلقة، حيث الحق هو الحلم بتحقيقها والجمال نتيجة لتحققها، بل هي شرط التحقق العيني والتاريخي للحضور الانساني، ولعل هذا التراكم يستند في مستوى الصورة الشعرية الى نوع من التفتيت. وفي الاطار الكلي العام يشير الى تفتيت الواقع داخل صورة شعرية مكتملة، يشير الى رؤية الشاعر المتماسكة لحساب اقامة عالم مواز ورمزي يصفه الشاعر داخل قصيدته.
أما محمود درويش في اعتقاد الرويني «فهو شاعر يحمي الشاعرية من الشاعرية، ويحمي العاطفية من العاطفية».
وتقول عبلة الرويني عن ادونيس انه مفتون بالقراءة، يحرص على التأويل وملاحقة الدلالات والاحكام، ويحرص على الامساك باللحظة لتثبيت الحكم واثباته، وهو خضع في تحليله لظاهرة الجمهور الشعري لفرضية ذهنية أقامها وسكن إليها، الجمهور هو في عمومه جمهور سياسي ايديولوجي، لا يتصل بالفكر بوصفه كشفا ومعرفة، جمهور قضاياه سياسية وهواجسه ايديولوجية، وهو بالضرورة مستلب الوعي، مغلوب على أمره، ومحاصر داخل مساحة ضيقة. وفي ظل غياب الجمهور عن القصيدة الادونيسية يقبل ادونيس بسهولة تفسيرات السلطة وسطوتها في صناعة الصورة ومحاولة امتلاك الجمهور وتوظيفه.

* اتهامات لجماعة «إضاءة»

* «عمر من النثر مضى، وعمر من الشعر يقبل، صف الهناءات واحدة جنب واحدة، وطيرها في فضاء الشرق حينما يتطابق البدنان، وانسها معلقة، كيف يكون جسمي موسيقيا بطغيانه عليّ؟». بهذا المقطع من قصيدة لحلمي سالم تستهل الرويني فصلها عنه في كتابه وهجومها عليه، بداية من اتهامه بالتناقض الى المراوغة التي تسمح بالعمل طوال الوقت خلف الاقنعة بمنهجية السوق السائد. وتتهم الرويني جماعة اضاءة الشعرية (جمال القصاص، حلمي سالم، ماجد يوسف، حسن طلب) انها عندما اعادت مجلة اضاءة اصدارها وضم اعضاء جدد إليها مثل الشاعرين صلاح اللقاني وفريد ابوسعدة بعد 20 عاما من الاستقلالية عن النظام ومؤسساته الثقافية فان جميع شعرائها الآن يعملون داخل شروط أو أطر المؤسسات الثقافية والحزبية، يمارسون التمرد هنا، ويمارسون الطاعة هناك أو يدمجون الطاعة بالخروج في نشاط مأزوم وهروبي، وهو قول يجافي الحقيقة في مناطق كثيرة، فليس جميع ابناء اضاءة ـ كما تزعم الرويني ـ يعملون داخل المؤسسات ولا جميعهم يعانون من مأزق هروبي.
ويبدو ان الرويني تفضل دائما ان تتكلم في المطلق وان تناقض نفسها بين الحين والآخر فبعد اربعة أسطر من الكلام السابق تعود لتقول ان جماعتي «اضاءة» و«أصوات»، قد اثمرتا في بداية السبعينات تيارا شعريا مختلفا، وجماعة شعرية تحاول ان تبلور خطواتها ورؤاها صوب قصيدة جديدة، وقد سمحت سنوات النضج والخصوصية بتمايز اصوات البعض وخصوصية قصائدهم. ثم تنتقل الرويني الى موضع آخر لتقول فيه انه مع كل فاعلية السبعينات وقوة حركتها الدافعة فلا يمكن فعليا الحديث عن اضافات محورية وتحولات شعرية حقيقية ومغايرة عما سبقها من قصائد، بل هي في كثير من الأحيان امتداد مباشر لقصائد سابقة بل وايديولوجيات سابقة، فلا يمكن قراءة «اضاءة» كلها بعيدا عن قيم جمالية تقليدية سابقة خصوصا في ذلك الاعتناء الشديد باللغة وبالايقاع والقيمة الصوتية للمفرد.
وما بين احتفاء وهجوم على حلمي سالم تنتقل الرويني الى عبد المنعم رمضان الذي تقول صراحة «لا أحب قصيدته كثيرا»، ومع ذلك تصفه بأنه خارجي بامتياز و«شاعر مضاد للايديولوجيا، للغاية، للوظيفة، للمعنى، للرسالة، لكل الجمل المكتملة أو حتى شبه المكتملة، يسخر من فكرة الجمهور، يناهض كل ما هو قومي وعروبي ويتأسى لحركات الاستقلال العربية وضحاياها».

* الحاج وإنتهاك الهوية العربية

* ومن مصر، تنتقل الناقدة إلى لبنان، فتقول عن حداثة أنس الحاج بأنها حداثة صادمة وعنيفة بكل ما تحتويه هذه الحداثة من التباس ومفارقة في المفهوم والوظيفة والدور. فقد بدأ أنسي الحاج حداثيا، ولم يصبح كما يتباهى .انتهك خطاب الهوية العربية بشكل عاصف، وهو ما استحق دائما نقمة العروبيين عليه أكثر من أي شاعر آخر، خاصة في رؤيته الشعرية المستندة على شرط (المجانية) كشرط أساسي للكتابة، وفي موقفه الحاد من الثقافة العربية. ولعل أنسي الحاج أحد الذين وصفهم الماغوط من شعراء مجلة شعر (قل لأحدهم ثلاث مرات: المتنبي، يسقط مغشيا عليه، بينما قل له جاك بريفير على مسافة كيلومتر فينتصب ويقفز عدة مرات عن الارض، كأنه شرب حليب السباع، لان هذا غربي وذاك عربي).
آخر الشعراء الخوارج هو وديع سعادة الذي تصفه الرويني بأنه «درب نفسه طويلا وبحسم على ادارة الاكتاف واحداث المسافة العميقة بينه وبين الاشياء وبينه وبين الآخرين، ودرب نفسه على قتل الذاكرة والتذكر والرغبة والوجود والامكنة، وعلى قتل نفسه تماما».
يحتوي الكتاب أيضا على حوارات مع الشعراء أمل دنقل واحمد عبدالمعطي حجازي، وسميح القاسم، ومحمود درويش وممدوح عدوان ومحمد الماغوط وادونيس.
انتهى الكتاب، ولم تذكر عبلة الرويني، لماذا هؤلاء شعراء خوارج؟ وما هي مبررات هذا التصنيف ؟