انطوان شلحت: يخوض عزمي بشارة في عمله الجديد lt;lt;الحاجزgt;gt;، الصادر اخيراً عن lt;lt;دار رياض الريس للكتب والنشرgt;gt; (بيروت)، تجربة إبداعية غير مسبوقة. ومع انه من الصعب القول إن ارهاصات شحنة الابداع كانت مفتقدة في كتاباته الفكرية والسياسية المألوفة للقارئ العربي من المحيط الى الخليج، فإن بشارة يتصدى لاول مرة في هذا الكتاب لمهمة واحدة وحيدة وشديدة التعقيد (هي في الجوهر المهمة الاطلاقية لأية نصوص روائية)، تتمثل في رفع الكتابة عن المعاناة في أشد وجوهها تحديداً، تلك النازفة تحت وطأة الحاجز، الى مصاف الاثر الادبي المجرد، الذي يخاطب الوجدان ولا يقفز عن العقل، بقدر ما يخاطب الروح والمخيلة.
ويتعين التوكيد، بداية، ان ما يسعفه في تخطي هذه المهمة بنجاح لافت، فضلا عن ثقافته التي تنمّ عن سعة وعمق، يبقى منشداً إلى أسلوب متميز في الكتابة وفي تشييد البنية الروائية يشي بملكة أدبية غنية تجعل من قراءة lt;lt;الحاجزgt;gt; متعة ذهنية للقارئ والناقد معاً.
تسع وخمسون صورة ادبية، بل تسع وخمسون شظية، هي معمار هذا العمل الادبي الروائي المدهش، رغم إيثار الكاتب ان ينعته بصفة lt;lt;شظايا روايةgt;gt;، وفق ما اعتقد على سبيل أخذ الحيطة من توثّب lt;lt;نقدgt;gt; عربي غير بريء البتة يتحين الفرص والدوائر، لمجرد كونه lt;lt;العمل الادبي الاولgt;gt; لصاحبه الذي قطع شوطا متميزا يغبط عليه في مضامير أخرى. وينظم هذه الصور كافتها خيط رفيع يتحكم فيه الكاتب بكفاءة عالية. هذا الخيط هو الذي يوسد الكتاب بعده الادبي، من حيث مبناه ومعناه على السواء.
وتبدو الصور في معظم الاحيان أنها صورة واحدة متشظية، وهو ما يمنحها قبل اي شيء مشروعية ان تكون رواية، وكذلك بسبب ان الشخصيات تبدو متماثلة ومتابعة للسابقة وتحمل جميعها ميزة الغرابة، ولحدوثها في فضاء واحد، ولأنها تركض وراء الاشياء الغريبة الخارجة من إطار الحاجز، تلهث خلف اللحظات وليس الاحداث...
لكن قبل أن نمضي مع هذا العمل، نسأل السؤال الذي لا بد منه: لماذا lt;lt;الحاجزgt;gt;؟
lt;lt;أصبح الحاجز إعلان الوجود الطاغي لمن وضعه. الحاجز هو الفاصل، وهو الواصل بين العالمين. هو الحدود وهو المعبر. هو الألم وهو الأمل بالخروجgt;gt;.
lt;lt;لم يعد الواقع إلا حاجزاً، ولا يوجد في الواقع توازن في الرعب، يوجد في الواقع رعبان لا توازن بينهما، خوفان لا تكافؤ بينهماgt;gt;.
lt;lt;بات الحاجز شمولياً لا يكتفي بأقل من وقت الإنسان كله، جهده كله، أعصابه كلها. حتى النهار قد يمضي وقته أمام الحاجز. الزمن ذاته ينتظر في المكانgt;gt;... الخ (من الكتاب).
لئن تبدو كل هذه المقولات، ومثلها في الكتاب كثير، مجرد lt;lt;تسويغاتgt;gt; أو معادلات موضوعية عادة ما يلتجئ اليها الكتّاب وقد ترد، بكيفية ما، في أية كتابة حول هذا الموضوع حصراً، فإن ما يسجّل لعزمي بشارة أن كتابته المتأنية، الأنيقة، الصافية والمعبرة، تمزج مزجاً أسلوبياً ودلالياً بين التخيّل الطليق المشرع وبين أحداث لحظات هي من غير هذا المزج المخصوص أقرب الى التوثيق، التاريخي إن شئتم.
الميزة الروائية
بيد ان lt;lt;الحاجزgt;gt; تستحق الصفة الروائية عن جدارة لاسباب اخرى ايضا.
مهما يكن من امر هذه الاسباب أرى وجوب التنويه، اساساً، بكونها تضعنا امام مفتاح مهم في الكتابة الروائية العربية الحديثة، وهو مفتاح لم تنتف الحاجة الى تقطيره، الآن وهنا، بل وعلى امتداد العالم العربي. وفي ظني ان الكاتب لم يكن غافلا عنه. إنه المفتاح الذاهب الى ان المبدع lt;lt;يفنّنgt;gt; الواقع، اذا جاز التعبير، إنما من غير وهم بأن التفنين هو غاية في حد ذاته تبرر التسمّر عندها. ومن هنا، اساسا، تتولد حاجة الكاتب/الروائي الى ان يتسلح ايضا بالسياسة، ناهيك عن فن الكتابة. وليس المقصود بالسياسة في معناها المباشر الذي قد يحيل الى الالتباس، ولا في دلالتها المرآوية او المشهدية، ولا في تصورها المبتذل الشائع في أفواه بعض السياسيين وفي ممارستهم (عندنا من هؤلاء الكثير)، وانما السياسة في معناها الذي يحيل الى الصراع المفتوح من اجل المعرفة.
ولديّ من الأسباب المرتبطة بواقع السياسة في الداخل الفلسطيني ما يكفي للقول إن الفيصل بين lt;lt;سياسة بعض السياسيينgt;gt; وبين الإسهام المعوّل على الرواية في السياسة توصل إليه بشارة كذلك على اساس من التجربة الشخصية الممضة، التي لا ينفك يرسمها مستوحداً في فاعليته ضمن هذا الحقل، لنفسه ولنا جميعاً.
وتجربة بشارة الناجزة في هذا المضمار، على أواليتها، ربما تحيل، اكثر شيء، الى تجربة روائي عربي آخر تحضرني الآن هي تجربة عبد الرحمن منيف. فلقد دخل منيف معترك الكتابة الروائية مدفوعاً برؤية كون الرواية lt;lt;عبارة عن صيغة من صيغ اكتشاف العالم ومعرفته بشكل افضل، من اجل التعامل معه ضمن قوانينه الحقيقية وايضاً لكي نراه دون عمليات تجميلgt;gt;. غير أن هذه الرؤية، التي جاءت روايات منيف كافة مستبطنة لها، عاكسة لملامحها، لم تبق مكتفية بذاتها، على ما يمكن أن يستثيره ذلك من تقدير قارّ، وإنما تشظت لناحية التأشير الى الدلالات المضادة داخل ذلك العالم.
من هذه النقطة تحديداً تستحيل الرواية، عموما، الى اداة جميلة للمعرفة والمتعة. وفي هذه الحالة ينسحب إكساب المعرفة والمتعة، وايضاً اكتسابهما، على الكاتب والقارئ معاً. ولكن كقارئ في قدرتي ان اقول إنه لدى قراءة lt;lt;الحاجزgt;gt; تتوالد حالة ينضفر فيها الوعي بالعالم الموصوف مع الجوهر المرغوب للعلاقة بالمجتمع، علاقة تتمثل آيتها في انك منبثق من هذا المجتمع لا في انك مجرد مضاف إليه. وبذا يتم اختزال الطريق، في مسار مخاطبة الوعي، بين ما هو قائم وبين الدلالات المضادة، التي تستدعي من يتشبث بها.
يشكل الحاجز، بطل هذه الرواية بامتياز، كما ينطبع القارئ، هاجسا مستمرا بالنسبة لبشارة الكاتب وهو يدفع النص صعداً نحو مستوى الاثر الادبي. كما انه يشكل هاجسا مؤرقا لبشارة الإنسان ليس باعتباره من ابناء lt;lt;بلاد الحواجزgt;gt; فقط، إنما لان النتائج المتحققة والمترتبة على ما بدأ بوصفه حاجزا اسمنتيا وسرعان ما اضحى سياجا عازلا، سواء في الأفق المنظور او في المدى البعيد البعيد، هي من الاتساع والخطورة ومن الشمول بحيث لا تترك إنسانا بعيدا او محايداً. ولا شك في أن القمع، الذي يطول الفلسطيني منذ ان امسى وجود الحاجز طاغياً على ما عداه من مظاهر قمع أخرى لا تقل فتكا، قد تعمق وأخذ اشكالا ومظاهر متزايدة وخفية، إضافة الى تخريب البنية العامة للمجتمع وايضاً تخريب القيم السائدة وتفتيت العلاقات الانسانية التي كانت تعتمد على التضامن والتكافل والحماية المشتركة. وهكذا فإن رحلة بحث بشارة غير منحصرة في معاناة البشر، وانما توحي ايضاً بل واساساً بمعاناة المشاعر، داخل حقل زاخر من الدلالات المتناقضة والمتألفة في الآن ذاته، حسبما تشفّ عن ذلك لا على سبيل الحصر دلالة الانسان والطفولة في الاسم lt;lt;وجدgt;gt; الذي يتصدّر عنوان الكتاب (وجد في بلاد الحواجز)، ومقابل ذلك وبموازاة معه دلالة الشعور والروح التي يتنفسها مصطلح lt;lt;الوجدgt;gt;، دون ادنى افتعال. وايضا كما يتمظهر تآلف المتناقضات في الانسان الانسان بين الفصل والوصل، الألم والامل، وما الى ذلك من ثنائيات اللحظات التي تؤثث الصور والاحداث الكثيرة والمتشابكة.
ومثل الانسان المكان كذلك، الذي لم يعد بدوره شيئا جامدا او محايدا يتمفصل في عاديته على محور الزمان، انه كما قال اديب عربي ما الحاضنة التي تتكون فيها الافكار والعلاقات، وتكتسب من خلالها حتى الملامح ونمط القول والنظرة، وبالتالي يترك المكان بصمته القوية على البشر وعلى كل ما ينهض فوقه. واذ تصبح العبثية في مكان كهذا هي lt;lt;سيدة الموقفgt;gt;، يثور السؤال حول ما اذا كان الذي يجري في العروق الآدمية هو كل شيء ما عدا ذلك lt;lt;الدمgt;gt;، الذي رأى lt;lt;د.ه. لورنسgt;gt; ان ما يقوله lt;lt;هو دائما صحيحgt;gt; في مقولته الخالدة، التي ما زالت أصداؤها تتردّد الى أيامنا الراهنة: lt;lt;قد تخطئ عقولنا، لكن ما يشعر به دمُنا وما يؤمن به ويقوله هو دائماً صحيحgt;gt;.
عن الأسلوب
اللغة أداة هامة في يد بشارة، والحقيقة أن هذا هو دأبه في كل ما يكتب وليس في هذا العمل فحسب. ويمكن ملاحظة أنه أكثر من الانحياز إلى lt;lt;اللغة العاميةgt;gt;. ومهما يكن من أمر ترجيح هذا الانحياز أو خلافه، فبيت القصيد من طرف الكاتب هو التوصل الى لغة تزخر بالحياة وتنقل ما ينبغي تبليغه مسكوباً في قالب جميل وجليّ.
أما أسلوب البناء الروائي، المتعارف على كونه lt;lt;يشكل جسراً بين الكاتب والقارئgt;gt;، فإن الكاتب يتوصّل إليه من خلال المعاناة والتجريب الدائم، وايضا من خلال التعلّم ومعرفة ردود الأفعال ومواطن القوة والضعف في عمله وأسلوبه، وكيفية التعامل مع الشخصيات والمناخات المتنوّعة والمختلفة. وعندما أشدّد على ذلك، رغم بداهته، فلكي أُعيد التذكير بlt;lt;حكم قيمةgt;gt; لا يعتبر البناء الروائي مجرد عمل فني او حرفة فحسب، اذ بالإضافة الى المعرفة فإن عنصري الصدق والانفعال اساسيان. وفي مثل هذه اللحظات يكون الكاتب في حالة اندماج في العملية الروائية، بحيث يجد نفسه محمولا او مدفوعا للتعامل مع الشخصيات بطريقة وكأنها كائنات حية من لحم ودم. وهذه الشخصيات لها افكارها وعواطفها ورؤيتها للعالم، ولذا لا بد من ترك الامور تأخذ مجراها ضمن هذه الانفعالات والتوترات الى ان تكتسب ملامح خاصة بها، فإذا جاءت الصياغة الأخيرة، وبعد ان يزول الانفعال، يبدأ العقل البارد بالعمل فيملأ الفجوات ويصلح أمر الشخصيات ويشدّها، بحيث تصبح اكثر إقناعاً وأبعد دلالة.
هذه المقاربة لرواية lt;lt;الحاجزgt;gt; قد تكون عامة بعض الشيء. بيد ان الرواية تغري بمقاربات اخرى على غرار المقاربة التناصية، انطلاقاً من اسم هذا الجزء lt;lt;وجد في بلاد الحواجزgt;gt; واحتمال ان يرد على كتاب lt;lt;أليس في بلاد العجائبgt;gt;. وبما ان الكاتب يعكف حاليا على كتابة الجزء الثاني تحت عنوان lt;lt;ظل الحاجزgt;gt;، فربما يشكل ذلك فرصة لتناوله من زوايا اخرى لم يتح المجال لتضمينها التضمين الكافي هنا.