حسناً انها انتهت هكذا. لم تحصل المجزرة الكبرى على رغم ان مجازر صغرى حصلت. لم تتصدع الأضرحة والصحن الحيدري رغم اصابة بعض الجدران. لم تسقط حكومة اياد علاوي رغم تعرضها لامتحان شديد الخطورة، لأن سقوطها كان ليعني انتفاء قابلية العراق للحكم. لم تستول القوات الاميركية على مدينة النجف رغم اقترابها من ذلك. لم تقع المدينة وإرثها الديني في قبضة مقتدى الصدر ومحكمته رغم وقوعها لأيام فعل فيها ما فعل. لم تتحول النجف في ظل الصدر شرارةً تلهب العراق كله، كما لم تتحول الفلوجة من قبلها، رغم مراهنة الكثيرين، لا سيما خارج العراق، على حريق كبير.
وهذه النهاية، اذا ما كُتب لها التحقق، تدين بدَين كبير للعقل الذي تبين انه لم يفقد سائر مرتكزاته في العراق. وقد تجسّد العقل، والحال هذه، في السياسات التي اتبعها السيد السيستاني. فمجيئه الى بريطانيا، كائناً ما كان السبب الصحي، بدا أشبه بالاحتماء من العاصفة والهوج اللذين اتسم بهما سلوك الأطراف المتصارعة. وللتذكير، فإن كثيرين، خارج العراق خصوصاً، لم ترتدع مخيّلاتهم عن تخيّل السيستاني يشمّر عن ساعديه وينضم الى... مقتدى! وكم تمادى هذا الصخب «الولاّدي» معوّلاً، في موازاة القصف والموت وتوتر الأمزجة، على معجزة كهذه!
لكن السيستاني، لئن انكفأ قليلاً، اختار التدخل من المنصة التي لا يملكها غيره، لا سيما وان الموضوع مدينة مقدسة. وبطبيعة الحال، أعانه ان جميع المعنيين في مأزق. بيد ان الفارق بين تأييد الحكومة العراقية المتحمس لمبادرته وصمت الصدر الذي أُوّل تأييداً ضمنياً، هو الفارق بين من لا يستطيع العيش في المأزق الى ما لا نهاية، وبين من يمكنه ان يعيش فيه هكذا، فإذا انتهى المأزق العام ابتدأ مأزقه.
وهذا، بمعنى ما، يلخص معضلة المقاومة العراقية، أو المقاومات، التي تملك ان تثير المشاكل، ولا تملك إطلاقاً ان توفر الحلول، أو حتى تفكر بها. فلا مقاومة النجف ولا مقاومة الفلوجة، لديهما كلمة واحدة تقولانها في ما خص شؤون البلاد والعباد، ما خلا مقاومة الاحتلال و«الكفار». وما يمكن تقديره من مواقفهما الأخرى، تبعاً لبعض ما هو معروف، لا يشجع على افتراض وضع أفضل من الاحتلال السيء ينجم عنهما.
أما الآن وقد ضمرت، في أغلب الظن، احدى المقاومتين، فيمكن افتراض ان يبدأ الجد، أي ان تبدأ السياسة، لا سيما صياغة العلاقة بين الطائفة الشيعية والعراق، وبينها وبين سائر مكوّنات الوطن العراقي. وهذه مهمة تستدعي العقّال والجديين الذين يدركون تعقيدات الواقع الراهن وصعوباته وتطلّبه للمسؤولية. فلو تحرك هؤلاء من البداية، ولو حضروا كأجسام سياسية مؤثرة، لما تُرك الأمر أصلاً لمقتدى الصدر، ولا للأعمال الاميركية الهوجاء الكثيرة، العسكري منها وغير العسكري. إلا ان هذه قصة أخرى وثيقة الصلة بتراكيب مجتمعاتنا وثقافاتها وقدرتها على المبادرة بلغة وأشكال معاصرة. فهل نقول ان تسوية النجف الأخيرة إشارة الى ان البطن العراقي ربما كان يحبل بوجهة معاكسة؟ عسانا لا نكون متسرّعين.