يدرس المسؤولون في بيروت ودمشق على أعلى المستويات تقريراً جاء به من واشنطن مؤخراً مسؤول لبناني رفيع ومعروف بصلته الوثيقة بآل بوش. التقرير يتحدث عن محاولة دبلوماسية قامت بها باريس لإقناع واشنطن بتقديم اقتراح مشترك الى مجلس الأمن الدولي يدعو الى إنهاء “احتلال” سوريا للبنان.
بحسب التقرير، فإن دبلوماسيين فرنسيين روّجوا، بتوجيهٍ من ديوان الرئيس جاك شيراك، لفكرة مفادها ان استخدام مجلس الامن هو وسيلةٌ أفضل وأفعل للضغط على سوريا من العقوبات التي فرضتها عليها واشنطن بصورة منفردة. ولا يتوقع الدبلوماسيون الفرنسيون ان يلقى اقتراح فرنسي امريكي مشترك معارضة كبيرة في مجلس الأمن اذا كان موضوعه مطالبة سوريا بالانسحاب من لبنان وفقا لبنود اتفاق الوفاق الوطني في الطائف للعام 1989. كما يعتقد الفرنسيون ان قرارا من مجلس الأمن بهذا المضمون من شأنه ايضاً تلطيف موقف سوريا تجاه “ الحضور” الأمريكي في العراق.
كان بود واشنطن، بحسب التقرير، الانضمام الى باريس لمعاقبة سوريا في لبنان لولا شعورها بأن المقاربة الفرنسية للموضوع، عشية انتخابات الرئاسة الأمريكية، لن تلقى دعما الاّ من أوساط معيّنة داخل المجتمع المسيحي في لبنان، وهو أمر تتجه واشنطن الى تجنبه في الظروف غير العادية التي يمر بها الشرق الأوسط حاليا.
جاء في التقرير، أيضاً، ان اركان البيت الأبيض الذين حضروا اجتماعات بوش شيراك لمناسبة الاحتفال بيوم الإنزال لقوات الحلفاء في “نورماندي” الفرنسية في شهر ايار/مايو الماضي واجتماعات رؤساء الدول الثماني في سي أيلاند بولاية جورجيا الأمريكية في شهر حزيران/ يونيو الماضي، قد تفاجأوا بموقف شيراك القاسي من الرئيس بشار الأسد. بعض من هؤلاء يعتقد ان مشاعر القسوة تجاه الأسد لها علاقة بالنفوذ الشخصي والتجاري الذي يتمتع به رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري لدى الرئيس الفرنسي. ويعتقد هؤلاء أيضا ان نقطة الخلاف الوحيدة بين الرئيسين الفرنسي والسوري هي لبنان، إذ لا أثر ظاهراً لأي خلاف آخر بينهما حول أي قضية اخرى شرق أوسطية، من فلسطين وصولا الى العراق ومرورا بالخليج.
لا يخفي التقرير انزعاج الولايات المتحدة من سياسة سوريا تجاه الوضع في العراق. صحيح ان تسلل الرجال والعتاد من سوريا الى العراق قد تباطأ كثيراً، إلا أن واشنطن تبدو متأكدة من أن المعارضين العراقيين للاحتلال الأمريكي الموجودين في دمشق يقومون بتمويل قوى المقاومة داخل العراق. لهذا السبب، يشير التقرير الى ان وفدا برئاسة مارك غروسمان، وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، سيقوم، بدفع من وزارة الدفاع، بزيارة دمشق ل “إنذار” المسؤولين السوريين حول تورطهم في العراق. ويؤكد التقرير ان مباحثات غروسمان المرتقبة في دمشق بجب عدم تأويلها بأنها بداية لحوار بين الطرفين الأمريكي والسوري. “ذلك بأن الحوار الحقيقي يبدأ فقط عندما توقف سوريا تورطها في العراق”. واذا ما فشلت مهمة غروسمان فإن الولايات المتحدة سوف تنظر، بحسب التقرير، في فرض عقوبات إضافية على سوريا كما لوّح بذلك مؤخرا نائب وزير الخارجية ريتشارد أرميتاج.
بالعودة الى انتخابات الرئاسة في لبنان، يقول التقرير ان ثمة لقاء بين مسؤولي وزارة الخارجية والبيت الأبيض في الاتفاق مع شيراك على الخلاص من الرئيس اللبناني اميل لحود. أكثر من ذلك، يقول التقرير إنهم، أي المسؤولون الأمريكيون، نحتوا شعارا بالكلمات الآتية: “أي شخص عدا لحود”، وان التعبير عن هذا الشعار سيشتد مع اقتراب انتخاب الرئيس ومع بقاء دايفيد ساترفيلد، سفير امريكا السابق في لبنان، في موقعه الحالي كنائب لوليم بيرنز، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، حتى نهاية الخريف المقبل. وكان ساترفيلد قد عيّن سفيرا لواشنطن في الأردن، الاّ انه تباطأ، او طُلب منه التباطؤ، في تسلّم مهمته الجديدة.
أخيراً، يحدد التقرير ثلاثة أسباب لموقف مسؤولي البيت الأبيض من لحود: (آ) احتضانه حزب الله “الإرهابي”، (ب) اذا أعيد انتخاب لحود فإن الحريري سيصبح، على الأرجح، خارج الحكم، (ح) أما إذا أخرج لحود من السلطة فإن الحريري سيكون أقوى في الحكم.
هذه، باختصار، النقاط الرئيسة في التقرير الذي تدرسه بأناة المراجع العليا في لبنان وسوريا. ما جدية هذا التقرير؟ وماذا يعني على صعيد الواقع السياسي؟
ليس في التقرير ما يشير الى انه وثيقة صادرة عن مرجعية سياسية معينة. انه اقرب ما يكون الى تحليل وضعته جهة مجهولة او معلومة داخل الإدارة الأمريكية ثم قامت ب “تسريبه” الى مسؤول لبناني رفيع مقرّب من المراجع العليا في لبنان وسوريا، فضلا عن صلته الوثيقة بآل بوش، أباً وابناً، بقصد إعطاء “النصيحة” المراد إيصالها الى من يهمه الأمر صدقيةً وازنة. فوق ذلك، ينطوي التحليل المصاغ برصانة وبأسلوب لا ينقصه التوازن على توجهات وإشارات متعددة:
ثمة اتجاه في فرنسا الى الالتقاء مع أمريكا على معاقبة سوريا في لبنان وليس داخل سوريا نفسها. العقوبة المتوخاة لا تهدف ظاهراً الى تحقيق المطالب التي قدمتها واشنطن الى سوريا بل تنحصر في مسألة الضغط عليها للانسحاب من لبنان بدعوى تطبيق اتفاق الطائف.
ان تسريب “التقرير” يوحي كأن الاقتراح المراد تقديمه الى مجلس الأمن لإقرار سحب القوات السورية من لبنان ممكن تأجيله، او حتى صرف النظر عنه، اذا ما استجابت سوريا الى مطالب امريكا الرئيسة المتمثلة بوقف تسلل الرجال والعتاد عبر حدودها الشرقية الى العراق، وتجريد حزب الله من السلاح، وطرد قادة منظمات المقاومة الفلسطينية الى خارج سوريا.
ثمة توافق امريكي فرنسي على الخلاص من اميل لحود بعدم التجديد له لولاية ثانية بسبب توافقه مع سياسة سوريا العربية والدولية عموماً. ومعارضته خصوصا تجريد حزب الله من السلاح او تعطيل المقاومة التي يتولاها ضد “اسرائيل”.
كما تتوافق واشنطن وباريس على اعتبار رفيق الحريري حليفاً مشتركا لهما، وأن بقاء لحود في الحكم يعني إقصاء الحريري، تماما كما يعني إقصاء لحود تعزيز مركز الحريري في السلطة.
لا تراجع امريكيا عن العقوبات المفروضة على سوريا، ولا استعداد لمعاودة الحوار مع دمشق إلا بعد وقفها “التورط” الحاصل من طرفها في العراق.
لا مجال لصفقة بين امريكا وسوريا حول الشخصية التي ستملأ كرسي الرئاسة اللبنانية للسنوات الست القادمة. فلا السوريون مستعدون لقبول الطلبات الأمريكية الثلاثة الرئيسة في مقابل الإبقاء على لحود او اختيار شخصية وطنية بديلة منه، ولا الأمريكيون مستعدون لرفع العقوبات عن سوريا اذا ما وافقت على ترشيح شخصية موالية لهم للحلول محل لحود.
الموقف، إذاً، ما زال على حاله. ولعل أول تباشير الرد اللبناني السوري المشترك على “التقرير” أو التحليل المشار اليه آنفا إعلان لحود أخيراً، وبعد طول تمسك بأنه “لا يطلب شيئاً لنفسه”، ترشحه لولاية ثانية “اذا رغبت الأغلبية النيابية في إسناد هذه المهمة اليه على أساس خطاب القسم”. إن ترشح لحود وبالتالي انتخابه لولاية جديدة يعني، في ما يعني، احتمال إقصاء الحريري. هكذا ترد سوريا على محاولة فرنسا، ومعها ضمنا أمريكا معاقبتها في لبنان ( بقرار من مجلس الأمن يقضي بسحب قواتها ) بإقصاء صديقهما المشترك من السلطة بعدما استوطنها اكثر من عشر سنوات.
... والصراع مستمر.
التعليقات