قد لا يكون جائزاً، أمام ما يجري في لبنان، lt;lt;شخصنةgt;gt; السياسة. ولكن ما العمل إذا كانت الظروف تضغط لترمي على شخص بعينه مسؤوليات كبيرة ولتجعله يعيش ساعات صعبة جداً. ان ما يحصل مع رفيق الحريري ينتمي، بالفعل، إلى عالم التراجيديا الاغريقية.
لقد دارت الأيام ثم دارت فإذا به وجهاً لوجه أمام مهمة استثنائية ومزدوجة: ليس فقط تأمين الإطار المؤسساتي لطلب تعديل الدستور وإنما، فوق ذلك، تأمين الأكثرية اللازمة لهذا التعديل.
انها لحظة كثافة درامية نادرة.
فالرجل، أي الحريري، لا يطيق الآخر، أي إميل لحود. لا يخفي ذلك ولا الثاني يكبت عواطفه. المزاجان متعارضان. التربيتان مختلفتان. الأساليب متناقضة. الوجهتان متوازيتان. وحتى فترة lt;lt;غسل القلوبgt;gt; الشهيرة كانت الاستثناء الذي يثبت القاعدة ولعل المطلوب الكثير من الجهد لإعطاء هذا التباين مضموناً حول الدولة ودورها، والاقتصاد ومنحاه، والفاعلية وشروطها، الخ... علماً بأن هناك من يجادل في هذه العناوين كلها ويقول ان السلطة استنفدت الاثنين معاً وجعلتهما أقل تباعداً مما يبدو. غير ان هذا الجدل لا يفيد كثيراً لأننا نبقى أمام حقيقة ناطقة: قلما شهدت الحياة السياسية اللبنانية ثنائياً متفجراً مثل هذا الثنائي.
إلى هنا نحن أمام حالة درامية أقل من عادية. تصبح أكثر من ذلك عندما يصبح الحريري ملزماً، بحكم موقعه، بأن يوقع مرسوماً يطالب بتعديل الدستور من أجل السماح لخصمه اللدود بأن يستمر في موقعه الرئاسي. ويكفي إجراء lt;lt;بوانتاجgt;gt; سريع من أجل ادراك ان التوقيع لا يكفي. فمن حيث الشكل يصعب الجمع بين موافقة في مجلس الوزراء ومعارضة في مجلس النواب. ومن حيث المضمون سيكون التوقيع بلا معنى عند طالبيه إذا كان إمراره يحتاج إلى أصوات يمون عليها الحريري وإذا امتنع عن تأمينها.
دخلنا، هنا، عالم الدراما الفعلية. غير اننا لم نصل إلى الذروة.
يكاد لحود يعلن ان عهده الجديد سيكون عهد إنهاء lt;lt;الملابسات والتناقضاتgt;gt; التي رافقت السنوات الست الأولى ومنعته من إنجاز الاصلاحات التي يطمح إليها. ان lt;lt;الملابسات والتناقضاتgt;gt; في lt;lt;الكودgt;gt; اللحودي هي كنية رفيق الحريري. يعني ذلك ان الأخير مضطر إلى بذل الجهد المشار إليه من أجل ان يسمح للرئيس المجدد أو الممدد له بالخلاص منه حتى لو قدّم ذلك بأنه هو الذي يريد الابتعاد. والانكى من ذلك ان الخلاص منه يتم تحت شعار إزالة عقبة من أمام الإصلاح. أي ان على الحريري ان يقر بأنه كان تلك العقبة التي لا تتمتع سوى بفضيلة واحدة هي فضيلة التجاوب مع الضرورة التي تحتم عليها ان تزيل نفسها بشكل تلقائي!
إذا لم تكن هذه دراما فماذا تكون؟
غير ان الواقع، مرة أخرى، يتجاوز الرواية. ان الحريري مضطر إلى مواجهة هذه اللحظات الهائلة في صعوبتها من أجل إرضاء طرف يؤكد حرصه على إرضائه. لقد طلب إليه ان يفعل ذلك. وقيل له إنك معرض لlt;lt;امتحان تحالفgt;gt; من أجل اختبار حرصك على الحليف الاقليمي، وهو اختبار لا يقل عن طلب التضحية بالنفس حيال خصم محلي، والمساعدة على إنجاحه، من أجل إظهار صدق الولاء. أي إن الطلب نفسه يتضمن اختباراً يفترض فيه ان يصنّف الحريري بصفته أحد أصدق أصدقاء الطالب. وكان يمكن لذلك ان يحفظ له موقعاً. غير ان الدراما، وهنا سرها الغامض وسحرها، تشترط فعل تضحية هو نفسه، بالضبط، الفعل الذي يحمل في ذاته فعل تعطيله. هذا اختبار شبه توراتي تعرّض له مرة من طلب منه تقديم ابنه قرباناً لكن السكين اوقفت عند اتضاح التجاوب وحسن النوايا. ولعل الحريري نفسه اوحى بهذا الجانب التوراتي عندما لم يعد يجد سوى النبي أيوب كي يتمثل به!
كان يمكن لقصة صعود رفيق الحريري من حيث كان إلى حيث أصبح ان تكون موضوعاً روائياً (شرط ألا يرويه هو كما فعل في حديث تلفزيوني). غير انه بات محسوماً ان قصص النجاح تقدم مادة روائية سيئة. ان الساعات الأخيرة التي أمضاها الحريري تتضمن المواد الأولية لرواية استثنائية.
إلا ان الرجل طرف في صناعة مأساته. لقد لعب دوراً مركزياً ومحورياً في إنتاج الإطار والشروط والعوامل التي وضعته في مواجهة هذه الخيارات الصعبة. اخطأ كثيراً، وتجاوز كثيراً، وتفاءل كثيراً، وغامر بعض الشيء، ولامس حافة الاشراك في المرجعية بأن جعلها المفضلة بين جملة خيارات وليس الوحيدة. كان يتلقى الإشارات السلبية فلا يكترث ويخلط بين تمنياته وتقديراته غير مدرك إطلاقاً ان هذا الخلط يقلل منسوب الإخلاص والولاء المطلوب توافرهما في من يريد ان يزعم لنفسه دوراً ليس أقل من المساهمة في درء العاصفة البوشية الشارونية.
ثمة نكتة يتداولها اللبنانيون. يقول الحريري: lt;lt;إذا طلب مني فإني اوقع ثم انتحرgt;gt;. يعلق محدثه: lt;lt;ان خدمة واحدة مطلوبة منك لا خدمتانgt;gt;. الإشارة إلى lt;lt;الانتحارgt;gt; في النكتة تشير إلى الجانب التراجيدي في الوضعية الشخصية للرجل. فهو يعرف انه سيوقع التزاماً منه بتحالف. غير انه يريد، عبر إشارة الانتحار، إشهار وصية تدل على حجم التضحية التي يقدم عليها.
ان الدراما، في لبنان، مهددة دوماً بالتحول إلى ميلودراما. ولذلك، وفي لحظة اكتمال عناصر التراجيديا، بدأ الحديث عن تقصير مدة العذاب لمن هو مطالب باتخاذ الوضعية المازوشية.
ان التجديد، من وجهة نظر جمالية المأساة، أحسن. لكن للسياسات ضرورات ليست الجماليات من بينها. ربما كان هذا أفضل.
- آخر تحديث :
التعليقات