ربما كان هنري لورنس، في طوره لأن يحل محل جاك بيرك، أو لويس ماسينيون، في ما يخص تحليل القضايا العربية والتخصص فيها. فهذا الباحث الشاب، الذي لا يتجاوز الخمسين من العمر، عُيِّن أخيراً، استاذاً في أعلى مؤسسة علمية فرنسية (أعلى من السوربون)، هي الكوليج دو فرانس. فهو يحتل فيها كرسي التاريخ المعاصر للعالم العربي، وهو الكرسي نفسه الذي كان يحتله ماسينيون وبيرك سابقاً، ربما مع بعض التغيير في الاسم أو التعديل.
والرجل اصدر حتى الآن، كتباً عديدة عن الشرق العربي، نذكر من بينها كتابه الضخم عن فلسطين في مجلدين، ثم كتابه عن «الشرق العربي في عهد الهيمنة الأميركية»، وأخيراً كتابه «شرقيات» في جزءين. والرجل يدرس تاريخ المنطقة العربية، متخذاً حملة نابليون بونابرت عليها كنقطة فاصلة، لكنه لا يكتفي بدراسة الحملة ذاتها، إنما يعود إلى الوراء قرناً من الزمان ويتقدم بعدها إلى الأمام قرنين، حتى يصل إلى عصرنا الراهن. وهكذا يعطي صورة شاملة عن أوضاع العالم العربي على مدار القرون الثلاثة المنصرمة، وهي القرون التي ابتدأنا فيها نتعرف على حداثة الغرب حقاً، ونستيقظ من نوم عميق وطويل. وعندئذ دخلنا في إشكالية الصراع بين التراث والحداثة، وماذا نأخذ من هذه الأخيرة، وماذا ندع؟!.
طيلة هذه القرون الثلاثة، ما انفك العالم العربي ـ الإسلامي، يحتك بالغرب ويصارعه على المستويات كافة: الفكرية، والسياسية، وحتى العسكرية. ومن كثرة التصارع والاحتكاك، أصبح الغرب مُستبطناً من قبل العربي أو المسلم، حتى ولو على سبيل الرفض، فما بالك بالقبول!، وبالتالي فلم يعد الغرب هو الآخر الأجنبي والمختلف في المطلق على عكس ما نتصور. يكفي أن ننظر إلى التيارات الفكرية الحديثة كالقومية، والعلمانية، والاشتراكية، والليبرالية، لكي نتأكد من ذلك. ويكفي أن ننظر إلى ثورة الشعر الحديث في العالم العربي، ومدى تأثرها بالشعر الفرنسي أو الإنجليزي.. إلخ، فالسوريالية، والوجودية، والبنيوية، وشعر بودلير، ورامبو، وت. س. ايليوت.. إلخ، كل هذا أصبح جزءاً من المناخ الشعري والثقافي العربي. بالطبع، فإن المقابل ليس صحيحاً، وذلك لأن المغلوب هو الذي يقلّد ثقافة الغالب، كما قال ابن خلدون وليس العكس. والفرنسيون يشكون، أحياناً، من الدونية تجاه الأميركان، مثلما نشكو نحن من الدونية تجاه الفرنسيين أو عموم الأوروبيين.. فهناك دائماً شخص أعلى منك!. نقول ذلك، على الرغم من تأثير كتاب، كألف ليلة وليلة، على الخيال الأدبي الأوروبي منذ عدة قرون، لكنه الاستثناء الذي يثبت القاعدة. فالعصر الذي كان فيه العرب منارة للأوروبيين أو مرجعية ثقافة مضى وانقضى منذ زمن بعيد. كان ذلك في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر، وحتى السادس عشر تقريباً. كان ذلك في عصر يفتخر فيه المثقف الفرنسي أو الإيطالي بأنه يعرف ابن رشد أو ابن سينا، مثلما نفتخر نحن الآن بأننا نعرف كانت أو هيغل!.
ربما كان هناك مجال واحد لم يستفد فيه العرب من الأوروبيين كما ينبغي، هو: مجال العلوم الدينية، وتاريخ الأديان المقارنة، وهو أهم مجال بالنسبة لنا الآن، وربما لسنوات طويلة، لكن من شدّة حساسيته وخطورته، فإننا تحاشيناه أو لم نتجرّأ على طرق أبوابه حتى الآن. وربما كان الصراع على فلسطين، هو أحد الأسباب، إن لم يكن السبب الأساسي. فأنت لا تستطيع أن تتخذ التراث الديني كمادة للدراسة التاريخية ـ النقدية، في الوقت الذي أنت مضطر فيه لاستخدامه كأداة فعّالة من أجل الجهاد أو الكفاح ضد العدوان الخارجي، وهنا تكمن مأساة الثقافة العربية ومعادلتها شبه المستحيلة. وكان ينبغي أن أقول مأساة الليبراليين العرب، لأن المحافظين تناسبهم هذه الحالة تماماً. فما دامت قائمة، فإن أفكارهم ستظل سائدة وآيديولوجيتهم مسيطرة. وحتى هيكل، التحق بهم أخيراً على ما يبدو، كما فهمت من مقالة لمحمد عبد المطلب الهوني، لكن لنعد إلى هنري لورنس وأفكاره وتحليلاته.
يرى هذا الباحث أنه منذ حملة فرنسا على مصر عام 1798، كذلك حملتها على الجزائر عام 1830، فإن لهذا البلد تاريخاً طويلاً مشتركاً مع العالم العربي، وبالتالي، فأي تفكير باحداث القطيعة بيننا، يمثل كارثة أو جريمة. ولهذا السبب، فإن حوار الحضارات، هو الطريق الوحيد السالك وليس صراع الحضارات.
ثم يتعرض المفكر الفرنسي إلى معضلة التفاوت التاريخي بين مجتمعات أوروبا المتقدمة مادياً وفكرياً من جهة، ومجتمعات الإسلام المتأخرة على كلا الصعيدين، ويقول: بدءاً من القرن الثامن عشر، أي عصر التنوير الأوروبي، أصبح الشرق العربي الإسلامي، ماضياً في الحاضر، بمعنى أنه يعيش زمنياً في نفس العصر الذي يعيش فيه الأوروبيون، لكنه عقلياً يعيش في عصور غابرة. وعلى هذا النحو، يفرق الفلاسفة بين المعاصرة الزمنية والمعاصرة المعرفية، أو الابستمولوجية. ومنذ وقت طويل، تنبّه الفيلسوف الفرنسي «فولني» إلى هذه المسألة، عندما قال، بأن العرب، حالياً، هم في الحالة نفسها التي كنا عليها في القرن السادس عشر، بمعنى ان الفرق في التطور يصل إلى حد القرنين من الزمان.. هذا الكلام قاله فولني في أواخر القرن الثامن عشر.
ونخشى أن تكون المسافة قد اتسعت منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا.
موضوع تأخر العالم العربي ـ الإسلامي، أو انسداده، كان قد شغل فلاسفة فرنسا منذ القرن الثامن عشر. ولم ننتظر جاك بيرك أو عبد الله العروي لكي ندركه، ففولتير تحدث عنه، كذلك جان جاك روسو، ومونتسكيو وآخرون عديدون عندما بحثوا في شؤون الشرق والإسلام، ثم جاء بعدهم «رينان» في القرن التاسع عشر، لكي يصل بالإشكالية إلى ذروتها ويثير نقاشات صاخبة ورائعة مع جمال الدين الأفغاني، لكن في القرن التاسع عشر حصل انقلاب على التنوير لدى بعض كتّاب فرنسا، من أمثال جيرار من دونير فال، ولامارتين، وفلوبير، وامتلأت كتاباتهم بالحنين الغامض إلى الشرق البعيد.
هنا ينبغي أن أتوقف لحظة لكي أوضح الأمور أكثر، في الواقع أن رد الفعل الرومانطيقي على عصر التنوير كان مفهوماً في وقته، لأن الناس ملّت من العقل بعد أن شبعت منه. فالتنوير نزع هالات الأسطورة عن كل شيء، وعَقلْنَ الحياة الأوروبية أكثر مما يجب. لذلك، حصل رد فعل عليه لاحقاً، وهذا أمر طبيعي. فكل فعل يولّد رد فعل، والحياة عبارة عن مدّ وجزر. وعندما تملّ من موجة فكرية، تحلُم بعكسها، وهكذا دواليك.. فالإنسان لا يعيش بالعقل فقط، إنما أيضاً بالخيال والأحاسيس والأحلام. وهي أحلام غطس فيها الشعراء الرومانطيقيون المتأسفون على عصر مضى وانقضى، وراحوا يحلمون بالعصور الوسطى، حيث كانت الحياة مليئة بالأسرار والمجاهيل والبراءات الأولى والظلمات، وحيث لم تكن الصناعة أو التقنية قد سيطرت على كل شيء ودجّنت الطبيعة. لذلك، راحوا يحلمون بالشرق البعيد، بل وسافروا إليه لكي يروا ذلك العالم الذي مات عندهم، بعد ان دمرته الحداثة وقضت عليه.
في تصريحاته الأخيرة، يطرح هنري لورنس هذا السؤال: كيف أمكن للثورة الفرنسية القائمة على فكرة حقوق الإنسان، أن تتحول إلى مشروع كولونيالي، استعماري؟، وهو يقول، بأن هذا السؤال كان نقطة الانطلاق الأولى لبحوثه كلها. ونحن نقول بأن كل إشكالية الحضارة الحديثة تكمن هنا. فقد كان من المتوقع أن يؤدي مشروع التنوير والثورة الفرنسية، وقبلها الإنجليزية والأميركية، إلى تحرير الجنس البشري كله. فإذا بنا نفاجأ بمصادرة هذا المشروع من قِبل طبقة متغطرسة، هي طبقة البورجوازيين الفاتحين، وتحويله إلى مشروع توسع وهيمنة على ثروات الآخرين، لكن أليست كل الحضارات تفعل هكذا؟، أليست كلها مزدوجة أو ذات وجهين؟، اقصد بذلك الوجه السلبي والوجه الإيجابي، الوجه التحريري والوجه القمعي التسلّطي.
يبدو أن البشر ليسوا ملائكة ولا يمكن أن يتخلصوا كلياً من النزعات الأنانية الضيقة، لكن هذا لا يعني ان التقدم لا معنى له أو لا وجود له في التاريخ. فالقول بذلك، يعني السقوط في وهدة العدمية. وهو أخطر شيء يمكن أن يصيب الثقافة العربية كما الأجنبية، وها هو الغرب يجيء مرة أخرى لكي يخلّصنا من الاستبداد ويدخلنا في عصر الديمقراطية والتسامح الديني والنزعة الإنسانية، لكن هل سينجح يا تُرى أم أن المسألة هي مسألتنا وحدنا؟.