تعلمنا في ظلال الدين والدنيا ان البيوت لا تُدخل الا من ابوابها، ولا ادري كيف اجترأ عليّ الضيفُ الجديد في غفلة مني وقذف بنفسه اعتباطا من النافذة، فما كان بالحسبان ان تشرق شمس هذا اليوم على زاوية «سبعة ايام» لأكون اول من يصطبح من كتّابها بغرة العام الخامس من القرن الحادي والعشرين، وكم كنت اتمنى لو ان الصدفة اخطأتني واصابت فتى ما زالت سنوات عمره ناطرات شبابه الغضّ على ناصية الحدق في عيون الغد الآتي، حتى اذا ردد طرفة بن العبد بيت شعره الذي يقول في شطره الاول «أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة» يعلم الفتى ان هذا الكنز ما زال امامه يغرف منه كما يغرف الماء بالحفنات، وماذا عساني اقول انا للعام الجديد اذا كنت قد ضيّعت من هذا الكنز نيفا وستة عقود اودعتها في ارشيف تراجيدي كتب القدر علينا مآسيه في صفحاته المكفهرّات، وما هو الا عقد ونصف العقد حتى الحق بزهير بن ابي سلمى لأنشد معه.
«سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم»
سنوات كثيرة عبرت خاض فيها ابناء جيلي غمار المآسي، وكانت لتقصم الظهر لولا اننا حلبنا اشطرها بالساعد الاشد، وما كان امامنا غير خيار واحد صمدنا فيه لنائبات الدهر وغدر الايام. وما كنت لاتفجع صبيحة اليوم الاول من العام الجديد لو كان الامر متعلقا بلقيمات الخبز وانا واحد من جيل عريض المناكب من الزهاد طلعنا من صخر بلادنا مكتوب على جبين كل واحد منا «الحُرّ حرّ ولو مسه الضُّرّ» طلعنا ونحن نردد وراء «الشنفرى» بيتين من عيون لامية العرب التي ما رأينا في ديوان شعرهم اعف قلبا ولا اعلى هامة ولا اشم عرنينا من قوافيها:
«وأسْتَفُّ ترب الارض كي لا يُرى له
عليّ من الطول امروء متطولُ
واطوي على الخمص الحوايا كما انطوت
خيوطةُ ماريّ تُغاد وتُفْتلُ»
عبرت السنون متقاطرات وما احبطنا فيها الفقر ولا اوجعنا الكفاف، ولقد تعلمنا في هذه الحياة ان دواء الدهر هو الصبر عليه، فكان كلما ولد عام جديد هدهدناه وغنينا على مسامعه اغاني السرير، ولكن عبثا حاولنا ان نرد السيل الجارف عن مجراه، وكان كل ضيف يحل في مضاربنا مثل ضيفنا الذي يحلُّ اليوم لا يجلس على فراشه الا وبيده السيف، ولولا ان العلي القدير وهبنا ابا حانيا لكانت أكلت لحمنا شفرات السنين الطاحنات، فلقد ولدنا ومن قبلنا اباؤنا تحت ظلال السيوف وعلى وقع بساطير الجند القادمين من اصقاع الارض وما تركت لنا الحروب المتتاليات فسحة من الوقت نجلس فيها لنرسم مستقبلنا ومستقبل ابنائنا، اينعت اشجارنا وما استمتعنا بثمارها، وسنبلت حقولنا وما ارتوت عيوننا من زهو سنابلنا، اخصب المرعى واطفلت القطعان وما جنينا غير ثغاء المطافيل.
رمتنا الحروب بداء الكروب، وكان كلما عبر عام امطرنا بسعيرها وانسلّ هاربا، ولان الشجا يبعث الشجا دعني اقدم لك ايها العام الجديد شهادات ميلاد اهلي وانت وصويحباتك من الاعوام الماضيات بها اعلم، فلقد ولد ابي في غرة الحرب الكونية الاولى، وولدت انا في آتون الكونية الثانية وولد اخي صبيحة حرب ايار وولد ابني في اعقاب الايام السود من حزيران وتوزعت شهادات ميلاد احفادي على حروب العراق الثلاث، وها انت تولد اليوم ايها العام الجديد مرتديا خوذة الحرب ورافعا بيدك عصا صولجانها، ولولا ان الضيف لا يُسأل عند العرب الا بعد ثلاثة ايام وثلث، لسألتك: ما وراءك ايها القادم؟ وهل ما زال هناك فسحة من الزمان يولد فيها ابناء الاحفاد وقد انقشع قتام المعارك وخمد رهج قساطلها، وهل فيك او في اخيك الذي سيخلفك يوم تشعشع فيه غزالة الضحى فيرحل الغزاة ويرعوي الغاشمون؟!