انتهى عام، وأتي عام جديد، وفي كل مرة نبحث عن حصاد ما جرى، ونتعشم خيرا فيما يأتي، وفي العادة فإن ما مضى يكون مأساويا للغاية، أما ما هو قادم فهو دائما الجديد الذي تتعلق عليه الآمال. ولكن هناك طريقة اخرى للتعامل مع الذاهب والقادم، وهي البحث عن التيارات الكبرى التي تبحث لنفسها عن غرس، ونرصدها لتوقيها أو الاستفادة منها.
وإذا كان هناك الكثير الذي ترصده الصحافة العربية مما هو قريب منا ويخص فلسطين والعراق والقضية الديمقراطية أو قل غير الديمقراطية في العالم العربي، فإن ما لا يقل أهمية عن كل ذلك استكشاف ما هو جار في الساحة العالمية. وأظن أن أهم ما يجري في هذه الساحة ليس رنانا بالمرة، فلا هو يخص أمريكا المحاربة، ولا يخص أوروبا المسالمة، وإنما يخص الصين والهند، وكلاهما كانا دوما مصدر اهتمام ومتابعة عندما كانت قضيتهما مناطحة أمريكا بالمشاحنة حول تايوان أو بانتاج الأسلحة النووية، أما بعد أن شحب ذلك كله، فلا تكاد تجد لهما خبرا في الإعلام العربي.
ومع ذلك فإن هناك الكثير الذي يجري في الدولتين، وربما كان الإصلاح الصيني والنمو الصيني ليس خبرا جديدا، فهكذا كان الحال منذ عام 1978 عندما لم يهبط الاقتصاد الصيني عن 8% إلا في أعوام نادرة، ولكن الخبر الحديث نسبيا فهو النمو الهندي الذي بدأ يستجمع عافيته خلال الأعوام القليلة الماضية، وبدأ يطارد الصين مرة اخرى بعد أن كان الظن هو أن السبق قد عقدت قصبته للصينيين الى الأبد بعد أن نجحوا في تخطي متوسط دخل الفرد الهندي عام 1985، وأصبحوا في المقدمة منذ ذلك التاريخ. ولكن حتى الخبر الهندي ليس خبرا لعام 2004 على الإطلاق، إنما كان الأهم هو النتائج الاستراتيجية للتنمية الهندية المتسارعة حيث بدأت تلقي بظلالها على العلاقات الهندية الخارجية.
وليس سرا على أحد أن للهند مشكلات تاريخية تتعلق بكشمير مع باكستان منذ تقسيم الهند، كما أن لها مشكلات تاريخية مع الصين تتعلق بأراض متنازع عليها بين البلدين. وببساطة فإن المشهد الآسيوي الاستراتيجي كان يقوم على صراع الهند والصين باعتبارهما عمالقة آسيا. ولكن ما جرى في عام 2004 فهو التقارب المتزايد بين الهند من ناحية وكل من باكستان والصين من ناحية اخرى فقد أصبحت نيودلهي تدرك أنه مهما كان للجغرافيا السياسية من أهمية فإنه لا ينبغي لها أبدا أن تغطي على الجغرافيا الاقتصادية، وبات معروفا أن امتلاك الهند للقنابل الذرية لن يحل كثيرا مشكلة الفقر لديها، ولا هجرة العقول، ولا حتى حسم المعركة الحضارية بين الهندوسية والبوذية. وفي النهاية فإن قطعة أرض زائدة في كشمير، أو قطعة أرض ناقصة في الشمال الشرقي، لن تجعل الدولة الهندية قادرة على تلبية احتياجات مواطنيها وأعدادهم المتزايدة. فقضية الأمن القومي الهندي، ومن قبله الأمن الصيني، وهناك ملامح أن باكستان تستعد للحاق بكليهما، هي أولا تحقيق أعلى معدلات النمو، وهي ثانيا تحقيق الاندماج في العولمة الاقتصادية العالمية.
وتحقيق كلا الهدفين ليس معضلة، و(الروشتة) التي تحقق كليهما باتت معروفة وواضحة، فهي تعني أولا جذب أعلى رقم للاستثمار من الخارج، وخلال الفترة من 1991 وحتى 2003 جذبت الهند 29 مليار دولار، وقد يبدو هذا الرقم صغيرا وفقا للمعايير الصينية، ولكنه بالمعايير الهندية تصاعد بمعدلات هائلة، ففي عام 1996 كان حجم الاستثمار الأجنبي 600 مليون دولار - أي أقل من مصر في ذلك العام - ولكنه أصبح 5.1 مليار دولار في عام 2003، أي خمسة عشر مثل ما حققته مصر في هذا العام، وجعل الهند تشغل المركز الرابع عشر بين الاقتصاديات النامية من حيث الاستثمار الأجنبي. وحدثت هذه الاستثمارات بصفة خاصة في قطاع التكنولوجيا المتقدمة للمعلومات التي باتت الهند معروفة بها عالميا. ولكن الهند لا تجتذب الاستثمارات الاجنبية فقط، وإنما أيضا توجد تحالفات دولية مع صناعات خدمية وغير خدمية شتى، من أول القيام بحسابات المؤسسات الكبرى في العالم، وحتى توفير خدمات طبية رخيصة للمرضى من العالم الأول حيث بلغ عدد المرضى السائحين في الهند 150 ألفا يزيدون بمعدل 15% كل عام، والمشاركة في المصنع العالمي من خلال تصنيع بعض قطع السيارات.
ولكن الروشتة تقول أيضا بضرورة التكامل الإقليمي، وربما كان حجم الصين والهند لا يحتاج لمثل هذه النوعية من التكامل حيث يوجد لديهما من السوق الواسع ما يكفي، ومع ذلك فإن التحدي الأمريكي والأوروبي يدفع الدولتين للتعاون بينهما. وخلال عام 2004 بلغ حجم التجارة بين البلدين 10 مليارات دولار، والأخطر من ذلك فإن كلا من البلدين أصبحا أكثر قربا في العديد من القضايا الاستراتيجية الكبري حتى أن الصين تخلت عن معارضتها لحصول الهند على مقعد دائم في مجلس الأمن. الأمر اللافت للنظر أيضا أن التعاون الهندي الصيني قد وصل الى ذرى عالية خاصة بين إلإقليم الشمالي الشرقي للهند، والجنوبي الغربي للصين حيث تنمو التجارة، والعلاقات بأشكال مثيرة بين إقليمي زينجيانج الصيني ومنطقة سكيم الهندية.
المثير هنا أن الروشتة تمضي في طريقها مقدمة درسا تاريخيا، فمع نمو العلاقات الاقتصادية والتجارية والفهم المشترك لطبيعة العالم فإن مشاكل الحدود الهندية الصينية تراجعت أهميتها وبدأ الحديث عن حل (المشكلات التاريخية) بروح تتحلى بالمرونة!. ومن المدهش أن العرب تصوروا دائما أن التقارب الهندي الصيني سوف يكون دائما لمصلحة ظهور أقطاب جديدة تناوئ العملاق الأمريكي، وتجعل العالم متعدد الأقطاب، ولكن ما حدث فعلا هو أن التعاون حدث بالفعل ولكن في إطار الحرب العالمية ضد الإرهاب (الإسلامي) !. أما بالنسبة للولايات المتحدة فإن كلتا الدولتين تتحدثان عن (الشراكة الاستراتيجية) مع واشنطن، وإذا كانت بكين قد قالت بهذه الشراكة خلال إدارة كلينتون، فإن الهند قالت بها أثناء إدارة جورج بوش عند زيارة رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينج لنيويورك ولقائه بالرئيس الأمريكي في شهر سبتمبر 2004.
فمن المعروف أن مقاطعة زينجيانج الصينية هي موطن لمجموعة عرقية مسلمة تسمى (يوغور) ابتليت بجماعات مسلحة منتشرة عبر منطقة آسيا الوسطى، وهذه أخذت في عمليات إرهابية تجاه الصين والهند معا، وكانت النتيجة اتحادهما وتعاونهما مع الولايات المتحدة في مقاومة الإرهاب، وبأشكال اقتصادية متنوعة كان منها إقامة منطقة تجارة حدودية في (ناثو لا) عند الحدود بين البلدين. إن العالم يتغير بسرعة للغاية وفي اتجاهات غير متوقعة تماما !!