لابد لنا إذن من التخلي عن الانشغال بأصل الجنس والانتماء الإثني والدوران في حلقة مفرغة من البحث عن وهم النقاء العرقي‏!‏ ولابد لنا من طرح القضية بمقدماتها الصحيحة وهي‏..‏ هويتنا هي ثقافتنا‏..‏ وثقافتنا عربية‏..‏ إذن فنحن ـ المصريين ـ عرب بالثقافة‏..‏ وبالتالي فهويتنا هي العروبة‏..‏ ولنقف قليلا عند مصطلح العروبة وهل هو إشارة إلي هوية العنصر أم هوية الثقافة‏,‏ وقد اتضح من حديثي في المقالات السابقة أنني أنفي الانتماء العنصري للجنس العربي ـ إذا كان هناك ما يمكن أن نسميه هذه التسمية ـ ولكني أؤكد الانتماء لثقافة عربية تشكل المعني الحقيقي للهوية‏!‏
إننا نردد دائما أن العروبة تتأسس علي ثوابت الاشتراك في اللغة الواحدة والتاريخ الواحد والثقافة السائدة‏,‏ فقد حملت جيوش الفتح الإسلامي المنطلقة من أرض الجزيرة ضمن ما حملت لغة قريش لتنشرها في الأمصار المفتوحة ولتصبح خلال زمن قياسي هي اللغة السائدة من شواطئ الأطلسي إلي حدود فارس وجنوب القوقاز‏..‏ ويصبح اللسان العربي هو الصوت الناطق الوحيد في تلك المنطقة خاصة في الولايات أو البلدان التي أنبتت فيها واندثرت لغاتها التي لم تصمد أمام التحولات الجيوبولوتيكية الحادة لسيطرة الحكم الروماني‏,‏ خاصة علي الساحلين الجنوبي والشرقي للبحر المتوسط‏,‏ أي أن البقاع التي فتحها المسلمون العرب واستطاعت لغاتها الأصلية أن تقاوم الغزو وتحافظ علي كيانها ـ في فارس إيران وتركيا وبلاد وسط آسيا جنوب الأورال‏..‏ بقيت إلي اليوم محتفظة بلسانها الخاص‏..‏ ولم تثر فيها إشكالية الخلط بين اللغة والدين والعنصر‏!‏ وإنما أثيرت هذه الإشكالية فقط في البلدان التي استطاعت اللغة العربية أن تفرض وجودها وسيطرتها‏..‏ وبالتالي عربت اللسان‏..‏ فتعربت معه الثقافة بالتدريج‏..‏ وحين يتوحد المكون الثقافي بين مجموعات بشرية متجاورة فلابد أن يؤدي هذا بالضرورة إلي إيجاد
نوع من الرغبة في الاتحاد‏..‏ وربما الاندماج ثم تترجم هذه الرغبة إلي مجموعة من التيارات المتحركة في اتجاهات تنظير سياسي يعبر عنها ويدعم هذه التيارات أن اللغة الواحدة تنتج أدبا واحدا وإبداعات فنية واحدة فتوجد فكرا متجانسا يضيف إلي الروابط الحياتية العادية زخما قد نسميه العمق أو البعد الثالث للغة‏!‏
وقد تتجلي خطورة الدور الذي تلعبه اللغة في تشكيل الهوية الثقافية فيما نراه اليوم من اتجاهات‏..‏ الارتباط بأخوية اللغة لعل أهمها إنشاء الفرانكوفونية وتجسيدها في منظمة رسمية عالمية هي منظمة الدول الناطقة بالفرنسية‏..‏ وقد سبقتها الدول الناطقة بالانجليزية وإن اتخذت واجهة اقتصادية في الكومنولث‏!‏ فإذا لاحظنا أن أخوية الأنجلوفون أو الفرانكوفون لا تجمع بالضرورة بين دول متجاورة في المكان أدركنا المعني الحقيقي للهوية الثقافية وتساءلنا‏:‏ فما بالنا إذا تجاورت في المكان كالدول العربية؟ ولأدركنا بالتالي أن إضافة الانتماء العربي إلي الانتماء الوطني‏..‏ هي إضافة سياسية في المحل الأول‏..‏ فحين نقول جمهورية مصر العربية أو الجمهورية العربية السورية نجد أنه نوع من تأكيد لون سياسي أو اتجاه حزبي‏..‏ ويرتبط أساسا بظروف سياسية معينة‏[‏ وقد يفيد في هذا الصدد أن نشير لحقيقة أن مصر كانت قبل ثورة يوليو تسمي المملكة المصرية‏..‏ ثم أصبحت جمهورية مصر وحين أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا أصبح الإقليمان معا الجمهورية العربية المتحدة وحين انفرط عقد الوحدة رجع كل من البلدين إلي الاسم الأصلي مع إضافة صفة العربية‏..‏ ربما كنوع من الاعتذار عن فشل تجربة الوحدة‏].‏
من البديهي أيضا أن الإسلام كان ركنا أساسيا في بنية الثقافة العربية وإن كانت تيارات كثيرة قد جعلته في حد ذاته كدين مرجعا عرقيا‏..‏ متجاهلة أو جاهلة أن دوره كمكون ثقافي أهم كثيرا من أي محاولة لجعله قومية عنصرية‏,‏ بل إن هذه المحاولة تقزمه وتختصره وتنفي عنه حقيقته باعتباره دعوة عالمية مطروحة علي كل البشر‏!‏
يقودنا كل ما سبق إلي التقدم خطوة نحو السؤال الأهم‏:‏
ــ ما الخطأ في أن تكون عروبتنا هي هويتنا الثقافية؟‏..‏ وما هي الميزة في الادعاء بأن العروبة هي الاتحاد في العنصر والأصل العرقي؟‏..‏ والإجابة لا تستعصي علينا لأن عناصرها ظاهرة وبارزة حولنا في كل معطيات الواقع السياسي والاجتماعي الماثلة علي الساحة‏!‏ والتي تعتبر صورة متجددة ومستنسخة ومتكررة عبر ما نطلق عليه اصطلاحا التاريخ العربي‏..‏ ولكي نحدد مدلول الاصطلاح سنقول إن المقصود هو تاريخ ما بعد الفتوحات الإسلامية والعربة التي استقلها العرب‏..‏ أما تاريخ العرب قبلها فهو تاريخ المجموعة البشرية المحدودة‏..‏ التي عاشت في شبه الجزيرة العربية والتي انقسم أهلها بين عرب عاربة وعرب مستعربة وبين قحطانيين وعدنانيين‏..‏ وهو تاريخ خاص لا نستهدفه هنا‏..‏ تلك الصورة المتكررة طغت عليها عملية الخلط بين مصطلحي الدولة العربية‏..‏ والدولة الإسلامية ونري منذ الوهلة الأولي أن العرب لم يتوحدوا أبدا في دولة إلا ضمن عملية سياسية تفرض بالقوة والقسر وتتخذ الطابع الديني والعشائري متحالفين معا‏..‏ وكانت دائما نتاج صراع عسكري سياسي بين فريقين‏..‏ مثلما حدث بين شرعية الولاية في عهد الخليفة الراشد الرابع الإمام علي بن أبي طالب وبين طموح الملك عند
معاوية بن أبي سفيان المطالب بدور بني أمية في التربع علي عرش الدولة‏..‏ ومثلما انهارت الدولة الأموية علي أيدي جيوش الفرس بقيادة أبو مسلم الخراساني حليف بني العباس‏..‏ وسنري أنه منذ الفتنة الكبري وحتي الآن لم يتحد العرب اختيارا قط‏..‏ وأقصد بالطبع الاتحاد السياسي داخل إطار دولة واحدة‏!‏
لكن العرب اتحدوا دائما كأبناء ثقافة واحدة‏!‏ ولم تكن هناك أي مشكلة في هذا الإطار ولعلنا نري أننا كشعوب عربية بالثقافة وبالخطاب السياسي الذي اعتمدناه دفاعا شرعيا في مواجهة الاستعمار والتحدي الأجنبي‏..‏ لم نفلح في إقامة أي نوع من الوحدة إلا في المجال الثقافي وحده‏..‏ وهو مجال إسهام مشترك للثقافات المحلية المتجاورة والمتجانسة والمتساندة‏!‏ وأي دراسة موضوعة علمية ستؤكد أن الكتاب والسينما والتعليم وفنون الغناء والإنتاج الدرامي كانت تشكل دائما وجدان ووعي الجماهير في كل البلدان الناطقة بالعربية في منطقة الشرق الأوسط‏..‏ فكلنا نتحدث ونكتب ونبدع بالعربية ونحزن ونفرح ونأكل ونتصرف ونتعامل وفقا لنفس القالب الحياتي والعرفي‏.‏
لكن وحدة الثقافة واعتمادها كبصمة هوية لا تنفي عن أقطارنا خصوصيتها‏..‏ تماما كما لاتنفي الفرانكوفونية خصوصية الدول المشاركة في منظومتها‏..‏ فالسنغاليون مثلا فرنسيو الثقافة‏..‏ لكن سياستهم وعلاقاتهم بالدول المجاورة في إفريقيا لا يقيدها إلا الصالح الوطني وحده‏..‏ أريد أن أخلص من التعميم إلي التركيز علي الخصوصية المصرية لأقول إنه وإن كانت عروبتنا هي انتماء ثقافيا أساسا إلا أن مصر لها موارد ثقافية أخري لا تصادرها العروبة الثقافية ولا ينبغي لها أن تفعل‏,‏ فالجذر الفرعوني متمثلا في تواصل التراث الحضاري والميثولوجي في الوجدان الوطني كذلك الجذور الإفريقية والمتوسطية تشكل جوانب لها أهميتها وخطورتها‏..‏ ومن هنا تبدو الإشكالية الرئيسية التي تواجه الفكر المستقبلي لأمتنا هي إيجاد حلول أو صيغ للحوار بين هذه الموارد‏..‏ حوار جدلي يؤدي في نهاية الأمر إلي الاستقرار علي ثوابت مصرية لها تجليات ثقافية عربية وتجليات حضارية إقليمية‏..‏ ويمكن للمصريين بالتالي أن يتحرروا من الارتهان لواقع يتسم بالجهل والتخلف والخضوع للقيم السلبية ويؤدي هذا التحرر في قابل الأيام إلي اللحاق بركب التقدم‏!‏
وفي اعتقادي أن الوقت قد حان لأن نعيد النظر بجدية فيما درجنا زمنا طويلا علي اعتناقه من منطلقات سياسية بحتة كانت في حقيقتها مجرد ردود أفعال لظروف مؤقتة‏!‏ كما أننا يجب أن نعيد الاعتبار لاجتهادات فكرية قدمها العديد من رواد التنوير والتحديث في العقود الأولي من القرن الماضي العشرين واتهمنا الكثير منها بالهرطقة الفكرية لمجرد أنهم عارضوا حالة الدروشة العربية ونبهوا إلي ضرورة الانتباه إلي تعدد اختيارات الانتماء بالنسبة لهوية المصريين‏,‏ ولاشك أن هذا الأمر يتناسب طرديا مع درجة انفتاح المجتمع المصري علي حرية الفكر وقبوله للاجتهاد وذهنية التعدد ونلفت النظر هنا إلي خطورة الردة التي حدثت في العقود الأخيرة وأصابت المناخ الثقافي بأمراض الدوجماطيقية الفكرية وأحادية النظر‏..‏ ولن نستطيع أن نستشرف نهضة جذرية تكون مقدمة لعصر إحياء عقلي أو رينيسانس مصري إلا إذا انتصرنا علي تلك الردة وتحولنا ببلادنا إلي طريق استنارة حقيقية‏..‏ تبتعد بالأجيال المقبلة عن ثقافة التعصب التي تتخذ أحيانا أقنعة مموهة بألوان تدعي الأصالة والارتباط بالثوابت والمسلمات‏!‏ هل أقول إننا لكي نحقق هذا في احتياج لثورة ثقافية شاملة؟‏..‏ سؤال علينا أن نفكر جيدا قبل أن نجيب عليه‏.‏