عندما أمسكت كليوباترا بالأفعي ولفتها حول رقبتها تاركة أنيابها الحادة تخترق رقبتها الممشوقة‏,‏ كانت تسجل لنا دون ان تقصد أول وأشهر مشهد للانتحار السياسي العلني بالسم في التاريخ‏..‏ وأغلب الظن أن ذلك المشهد البعيد ظل ملهما للمرأة في التخلص من نفسها أو خصومها قبل ان تقنع بالمساواة وبينها وبين الرجل وتلجأ للقتل بالساطور‏.‏ لقد أصبحت المرأة مثل الرجل تذبح وتخنق وتضرب وتفجر وتطلق الرصاص‏,‏ تاركة القتل النظيف بالسم لأجهزة المخابرات الخفية والقوية التي برعت في استنساخ أنواع مبتكرة من السموم ـ يصعب اكتشافها ـ استخدامتها في تصفية خصومها دون ان تترك وراءها أثرا يدل عليها أو يشير إليها‏.‏
في البداية لجأت تلك الاجهزة لتطوير السم من باب الرحمة‏,‏ وتجنيب جواسيسها قسوة التعذيب إذا ما سقطوا في يد أعدائءها‏..‏ كان عليها التوصل لنوع خاطف المفعول‏..‏ يقتل في لحظة‏..‏ بجرعة صغيرة جدا‏..‏ في حجم قرص الأسبرين‏..‏ فكان السيانور‏..‏ حبة توضع في غفلة تحت الأسنان والضرس ويخرج السر الإلهي‏..‏ وهو أمر يحتاج إلي شجاعة لم تكن تتوافر إلا لملوك العصور القديمة الذين كانوا ينهون حياتهم علنا علي طريقة ابطال مسرحيات شكسبير‏.‏
لكن‏..‏ الموت بالسم سرعان ما انتقل من مرحلة الانتحار إلي مرحلة الاغتيال‏..‏ من مرحلة مساعدة العملاء إلي مرحلة التخلص من الخصوم‏..‏ وهو تطور فرض التوصل إلي أنواع مذهلة وبطيئة من السموم‏..‏ يصعب اكتشافها بطرق التحليل التقليدية مهما كان حجم الشك والتوجس‏..‏ وتختفي وراء أعراض مرضية معروفة‏..‏ وتدفع بالعلاج إلي طريق آخر مختلف‏..‏ وهو ما يجعل سبل الإنقاذ مستحيلة‏.‏
إن آخر الضحايا علي ما يبدو ـ كان ياسر عرفات‏,‏ الذي ظهرت عليه أعراض نقص المناعة‏,‏ وتدهورت صحته فيما يشبه الانهيار‏,‏ وانتهت حياته في أيام قليلة معدودة‏..‏ وقد سألت رجل الأمن القوي في السلطة الفلسطينية محمد دحلان ـ وكان في زيارة سياسية للقاهرة بصحبة محمود عباس‏(‏ أبو مازن‏)‏ ـ عن حقيقة ما جري لـ أبو عمار فقال‏:‏ إن عشرين معملا فرنسيا لتحليل السموم لم تحسم ذلك الأمر‏..‏ فلا هي نفت‏..‏ ولا هي أكدت‏..‏ كل ما قالته‏:‏ إن ما هو معروف من سموم لايظهر في تحاليل عينات دم الزعيم الفلسطيني‏..‏ وما هو معروف من سموم لايزيد علي واحد في المائة مما هو مجهول منها‏.‏
لكن‏..‏ الواقعة التي وضعت قضية السموم علي صفحات الاهتمام في المجلة الفرنسية الشهيرة اكسبريس كانت واقعة محاولة اغتيال مرشح المعارضة في أوكرانيا فيكتور يوتشينكو الذي كان يفترض قتله بجرعة سم خالية من العيوب‏..‏ أي لايترك أثرا يؤدي إلي اكتشافه والتوصل إلي مستخدميه‏.‏
قبل ذلك كانت هناك عملية التخلص من الزعيم الشيشاني أمير خطاب في‏19‏ مارس سنة‏2002‏ بمجرد أن فتح خطابا مسموما‏..‏ لقد كان الخطاب ملوثا بمادة ساحقة انتقلت من صفحات الرسالة إلي اصابعه‏..‏ ومن أصابعه إلي فمه‏..‏ فمات في الحال‏..‏ علي طريقة المخرج السينمائي المصري ياسين إسماعيل ياسين في فيلمه المثير الذي جعل بطلته تضع السم في صمغ مظروف الخطابات فتخلصت من أقرب الناس إليها بسهولة وبرقة متناهية دون ان تلفت النظر إليها‏.‏
قبل ذلك كانت هناك أيضا عملية التخلص من صحفيين روسيين كانا يقفان ضد الحكومة الروسية التي يقودها ضابط مخابرات سابق‏(‏ بوتين‏)‏ مثل العقلة في الزور‏..‏ في يوم‏2‏ يوليو سنة‏2003‏ قامت المخابرات الروسية بتسميم يوري شتشكو تشيغين عضو برلمان الدوما ونائب رئيس تحرير إحدي الصحف المعارضة ـ الذي نشر تحقيقا موثقا بالمستندات عن عميل سابق في المخابرات السوفيتية‏(‏ كي جي بي‏)‏ يمتلك شركة تقوم بتنفيذ مهام سياسية سرية قذرة للحكومة الحالية‏..‏ أما الضحية الثانية التي كتبت لها النجاة فكانت الصحفية آنا بوليتكوفسكايا التي ألفت كتابا عن الشيشان كشفت فيه المجازر الوحشية التي ارتكبها الجيش الروسي هناك‏..‏ وقد أكدت أنها تعرضت للتخدير خلال رحلة عادية لشركة طيران إيروفلوت الروسية تمهيدا لوضع شريحة ملوثة بسم سريع المفعول علي شفتيها‏..‏ ولكن‏..‏ وصول المضيفة في الوقت المناسب أحبط المحاولة‏..‏ ونجت الصحفية الشجاعة من الموت‏..‏ وهبطت من الطائرة وهي تحمل في يدها دليلا علي ما جري‏..‏ الشريحة المسمومة‏..‏ وكانت الفضيحة مدوية‏..‏ ومن جديد عادت الملفات القديمة لتفتح وتنشر‏.‏
لقد كلفت حكومات الكتلة الشرقية أيام الحرب الباردة‏(‏ قبل سقوط الاتحاد السوفيتي‏)‏ أجهزة مخابراتها الصارمة والقاسية بإنشاء مختبرات سرية لتخليق انواع متطورة من السموم يسهل استخدامها ويصعب اكتشافها‏..‏ ومن ابرز وأخطر تلك المختبرات ما كان يعرف باسم المختبر رقم‏12‏ في معهد التكنولوجيا المتطورة‏,‏ الذي كان تابعا للمخابرات السوفيتية‏,‏ علي حد اعتراف بافيل سودوبلاتوف الجنرال السابق في الـ كي جي بي‏..‏ وكان القتل بالسم أيضا أحد الأنشطة الرئيسية لـ السميرش‏..‏ وهي وحدة سرية كلفت بتصفية الجواسيس والخونة في الحرب العالمية الثانية‏.‏
لكن‏..‏ كل هذه الخبرات التي كلفت اصحابها ملايين الروبلات ومئات الأبحاث بيعت برخص التراب إلي أجهزة المخابرات الغربية‏,‏ وعلي رأسها وكالة المخابرات المركزية‏(‏ الأمريكية‏)‏ علي حد قول العميل السابق في المخابرات الفرنسية‏(‏ المكتب الثاني‏)‏ كلود فور‏..‏ لقد جري تسريح العملاء والعلماء السوفيت بعد سقوط السلطة الشيوعية في البلاد بصورة عشوائية‏,‏ وفتحت لهم أبواب الهجرة بحثا عن لقمة العيش‏..‏ وكان أن حمل كل منهم خبرته وأوراقه وأسراره وفرشها علي الأرصفة وفي الأزقة الخلفية المظلمة‏..‏ وهكذا‏..‏ كان كل شيء جاهزا معلبا يسهل استعماله دون مجهود يذكر‏.‏
علي أن تلك الأجهزة الغربية لم تكن برئية من العبث بالسموم‏..‏ بل كانت موهوبة في استخدامها كي تتخلص من كل الذين يسببون الصداع لها‏..‏ وهي عادة قديمة في تصفية الحسابات السياسية‏..‏ إن نابليون بونابرت كان أصلع الرأس‏..‏ ما عدا تلك الخصلة التي كانت تتدلي علي جبهته‏..‏ وقد احتفظ الفرنسيون بتلك الخصلة بعد ان مات في منفاه بجزيرة سانت هيلانة‏..‏ في المحيط الاطلنطي‏..‏ وبعد اكثر من قرن ونصف القرن علي وفاته حلل الفرنسيون خصلة إمبراطورهم الأسبق فاكتشفوا أنه مات مسموما بالزرنيخ الذي كان يضعه الإنجليز ـ الذين نفوه ـ في طعامه بجرعات يومية صغيرة‏..‏ وتولي هذه المهمة الطبيب البريطاني المكلف برعايته صحيا‏..‏ وهو ما اثار غضب الفرنسيين فيما بعد‏..‏ ولم يهدأوا إلا بعد ان جردت بريطانيا ذلك الطبيب القاتل من صفة الشرف‏..‏ فقد خان مهنته‏.‏
وهناك شك في أن جوزيف ستالين مات هو أيضا مقتولا بالسم‏..‏ فقد اسود وجهه بعد ان تناول الجرعة الأخيرة من الدواء‏..‏ وانتفخ جسده بعد ان لفظ انفاسه الأخيرة‏..‏ وحاول ابنه فاسيلي ان يشرح الجثة للتأكد من ظنونه‏..‏ لكن‏..‏ ذلك لم يحدث‏..‏ وكل ما حدث ان الابن فجأة‏..‏ صمت‏..‏ ووافق علي تحنيط جثة أبيه التي دخلت متحف التاريخ السياسي في الكرملين‏..‏ علي أنه فيما بعد طالب جورباتشوف‏(‏ آخر الزعماء السوفيت‏)‏ بمعرفة حقيقة موت ستالين‏..‏ لكن‏..‏ لا أحد اهتم‏..‏ ولا أحد حاول أن يعرف هل قتل ستالين بسم أمريكي أم بسم روسي؟‏.‏ هل كان التخلص منه عملية غربية أم عملية عائلية؟‏.‏
وحسب تقرير لجنة تشرش ـ التي شكلها الكونجرس في منتصف السبعينيات بعد فضيحة ووترجيت لتقليم اظافر وكالة المخابرات الأمريكية والتحقيق في تجاوزاتها القانونية وحرمانها من عملياتها السرية ـ فإن الوكالة وضعت اقسام السموم فيها تحت درجة الاستنفار القصوي وهي تخطط لعمليات اغتيال غالبية زعماء العالم المعارضين لسياسة بلادها‏..‏ فيدل كاسترو في كوبا‏..‏ جمال عبد الناصر في مصر‏..‏ عبد الكريم قاسم في العراق‏..‏ سلفادور الليندي في شيلي‏..‏ بياتريس لومبومبا في الكونغو‏..‏ أنديرا غاندي في الهند‏..‏ كوامي نكروما في غانا‏..‏ وأحمد سوكارنو في إندونيسيا‏..‏ لكنها لم تنجح سوي في التخلص من اثنين فقط من هذه القائمة بوسائل أخري غير السم‏,‏ وهما سلفادور الليندي وبياتريس لومومبا‏.‏
وحسب التقرير نفسه فإن الوكالة اتجهت إلي اساليب مبتكرة عندما سعت إلي اغتيال هؤلاء الحكام‏..‏ فقد حاولت قتل فيدل كاسترو بسيجار مسموم دسته في علبة سيجار مكتبه‏..‏ وعندما كشفت تلك المحاولة وضعت نوعا من السموم التي تتسرب من خلال الجلد في زجاجة شامبو أرسلت إليه بطريقة لاتثير الشك‏..‏ لكن رجاله كشفوا الخدعة‏..‏ فمن تلسعه الشوربة ينفخ في الزبادي‏.‏
وكانت هناك محاولة ثالثة بوضع السم في جهاز التكييف بحيث يتسلل في صورة غازية تدخل الجهاز التنفسي وتصيبه بالعطب‏..‏ لكن‏..‏ الفرقة المكلفة بالمهمة قبض عليها قبل ان تبدأ في وضع الخطة النهائية للتنفيذ‏.‏
أما عبد الكريم قاسم فكانت خطة التخلص منه تبدأ بوضع السم في منديل يصل إليه ويتسبب في عجز الجسم عن المقاومة بعد تسرب السم إلي خلاياه بالتنفس وتدميرها دون ان ينتبه الأطباء إلي مايجري‏,‏ فالأعراض التي ستكون ظاهرة امامهم هي اعراض نزلة برد أو التهاب في الشعب الهوائية‏.‏
أما أغرب خطة لقتل شخصية سياسية معارضة للسياسة الأمريكية‏,‏ فهي خطة قتل صدام حسين بأقراص الفياجرا المسمومة‏..‏ وهي قصة مثيرة كشفت أخيرا‏..‏ ضاقت عليها المساحة‏..‏ ولا مفر من الانتظار‏.‏