مضى عام 2004، بما له وما عليه. مضى العام الماضي ولم يختلف عما سبقه كثيراً، وكلما مر عام بدأنا بمحاولة مقارنته مع العام الذي سيليه! لماذا ننظر أحياناً إلى الوراء ونقارن الماضي بالمستقبل؟ هل يمكن مقارنة شيء مضى بشيء لا يزال في علم الغيب؟ المتفائلون فقط هم الذين ينظرون إلى المستقبل تفاؤلا وأملا، والمتشائمون هم الذين ينظرون إلى الوراء والأمام تشاؤماً ويأساً.
هل يمكن أن نخلق أجواء متفائلة بالأعوام القادمة؟ هل يمكن أن نسن ثقافة للتفاؤل بقدوم الأعوام ورحيلها؟ لماذا يودع العالم العام بالاحتفالات؟ ترى هل هذه الاحتفالات وداعاً لما مضى، أم احتفاءً بما هو قادم؟ هل يمكن أن يودع الإنسان الزمن والأعوام؟ من الذي خلق فكرة وداع الأزمنة؟ من الذي فكر بوداع السنين؟ بل من الذي اخترع فكرة استقبال السنين القادمة والاحتفاء بها؟ العالم كله يولي مسألة الوداع والاستقبال هذه أهمية كبرى- من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، كل يرى في الاحتفالات السنوية بالوداع -الاستقبال مسألة إنسانية ضرورية. لقد اصبح تقليداً انسانياً عابراً للقارات ومتجاوزاً للفروقات، ويقفز فوق الاختلافات... يا له من احتفال غريب!.
البشرية كلها تنتهز هذه المناسبة الغريبة للوداع-الاستقبالي، طبعاً ما عدا أعداء البشرية، وقوى الانعزال التي ترى في الفرح بدعة، وفي التجهم سمة ومطلباً. في مثل هذه الأيام تتكرر الفتاوى والاجتهادات حول جواز "تهنئة المسيحيين بميلاد السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام"، فمن قائل بتحريمها إلى متردد في تحليلها. تتابع هذا الجدل لتدرك عمق المأساة، وتتساءل: كيف يمكن أن أنظر في عين من هو على غير ملتي وأتشدق بتسامح ثقافتي ما دام بيننا من يرفض حتى تهنئة الآخرين بمناسباتهم؟ كيف أجيب من يسألني إن كان هذا الجدل واقعاً فعلا في ديارنا وبين ظهرانينا؟
المسيح بن مريم –عليه السلام- لم يكن أميركياً، ولم يكن غربياً، ولا علاقة له بالإمبريالية الحديثة، ولا بالصهيونية المعاصرة، بل هو واحد من منطقتنا- فلسطين، والإيمان به من متطلبات الإسلام نفسه:"الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله"، والاحتفال بمولده هو احتفال بمناسبة ومعجزة ربانية. قال لي صديقي متأففاً: هناك فرق بين الفتاوى وبين قلة الأدب. لم أفهم ما كان يقصده، ولم أعلق.
لم يغادرنا عام 2004 دون أن يلحق بالبشرية كارثة طبيعية تجاوزت برعبها كارثة زلزال "بام" الإيرانية بآلاف المرات. فلقد انفلق المحيط الهندي، فكان الطوفان الذي غمر ماليزيا شرقاً وحتى الصومال غرباً، وكان منظراً مهولا للأمواج العاتية التي لم يقف في طريقها بشر ولا حجر.
حصر المآسي أطول من مقالة، وحصر التفاؤل ونفحات الأمل يستحيل قياسه. في العراق نفحات سرمدية من الأمل والتفاؤل، على الرغم من مآسي العبث الدموي المجنون، وعلى الرغم من سقوط ضحايا الإرهاب والحقد الأسود الدفين على النجاح والحرية، وسيستهل العراقيون العام الجديد بانتخابات تبشر ببدايات لجديد الحياة، وتوديعاً لفوضى الإرهاب ودموية الحقد.
العام الجديد جاء يحمل التفاؤل، والعام الماضي ولى دون رجعة. سوف نبشر بأن العام الجديد أفضل من الذي سبقه، وسوف نكرر حالات التفاؤل، ونعزز قيم الأمل. سننظر من خلال سم الخياط للبحث عن بارقة نور وأمل، وسندحر العام الماضي بكل تشاؤمه، ونودعه بلا أسف على رحيله. سننظر إلى الأمام، ونتطلع إلى السلام، ونتشبث بالأحلام، ونترجمها إلى حقائق على الأرض، وذلك لأن العام القادم كله أمل... كل عام وأنتم بخير.