فرحان سالم: تتزاحم الذكريات في ذهن عبدالرسول خداداد عباس حين ينقل اليه ان بلدية حولي تنوي ازالة البيوت القديمة، فتستعيد مرآة عينيه صورا حفرت في ذاكرته، اذ امضى 37 عاما في حوش العثمان الذي يقع بالقرب من دوار الكرد، «لا يمكن أن يجتث رجل من أرضه ووطنه، فأنا قدمت من جهرم وهي مدينة ايرانية تبعد عن شيراز 180 كيلومترا، واستوطنت هذا الحوش (بيت العثمان)، كان عمري وقتذاك 18 عاما، كنت شابا فتيا أناطح الجبال، لدي طاقة لا يمكن ان أصفها لك، عملت بكل جد واجتهاد، كنت منكبا على الشغل من أجل لقمة العيش، ففي ايران كانت هناك أقواه تنتظر مني أن أسد جوعها، وألجم خوفها من الفقر»، اليوم يبلغ خداداد من العمر 55 عاما، و مع ذلك من يراه يخيل اليه انه رجل على مشارف السبعين: «في العام 67 قصدت الكويت، أبحث عن رزقي، ورزق عائلتي التي كانت تبتهل الى الله ان أوفق في عملي، فتجدني كلما دب الكسل في نفسي طردته ونهرته، وذكرته بوجه أمي ونظرات التوسل التي استبدت بها 37 عاما من العمل الدؤوب في عالم المقاولات، نذهب قبل ان تتسلل خيوط الشمس، ونعود حين تركن الشمس الى اغفاءتها، لا تستغرب ان غزاني الشيب واستوطنت التجاعيد مدار وجهي، فأنا مسكون بالجهد والعمل»، لا يخفي خداداد القلق الذي يساوره حين تهوي الجرافات بحوشه: «هذا البيت يؤوي عددا كبيرا من العمال الايرانيين، فنحن أبناء عمومة وأقارب، ونفضل أن نعيش مع بعضنا، وما يجعلنا نتمسك بهذا الحوش العامر الايجار الرمزي، الذي لا يتجاوز الأربعين دينارا»، ويتدارك: «تصور كان ايجارنا لا يتجاوز العشرة دنانير، أما الآن فالايجارات أصبحت باهظة، ونحن نعيل أسرا في بلداننا، ولكن ما باليد حيلة، سنمتثل الى الأوامر، ونخلي المكان اذا صدرت التعليمات، وعموما الحوش أصبح قديما جدا والقمامة تتحوطه، ومن يقطن هنا يفضل تطبيق القوانين بحذافيرها، فمنذ 37 عاما لم أدخل أي مخفر، فأنا لا أعرف طريق المخفر، لأننا قصدنا هذا البلد الكريم بحثا عن الرزق ولقمة العيش، ولم نأت لخلق المشاكل، ومن يضع هدفا نصب عينيه، لا ينظر الى أي أمور أخرى».
أغلق خداداد باب بيت العثمان مستئذنا لأخذ قسط من الراحة، وهو يعلم في قرارة نفسه انه أغلق ذكريات تجاوز عمرها الـ 37 عاما.
تضاريس البنايات القديمة وملامحها المتشحة باللون الرمادي، تعكس صورة وملاح حراس العمارات الذين توقفت عندهم الحضارة عند منتصف الستينات، فأثوابهم رثة، ويعيشون في غرف لا تزيد على طولهم الا قليلا.
ومن بين عمارتين تنضح حبات العرق من فوق جبين ياسين الحارس رغم برودة الطقس فهو يعيش حالا من التأرجح على الشارع الفاصل بين العمارتين، يحرس العمارة الأولى، ويرمق الثانية بطرف عينه، ثم يعود مهرولا لأن أحدهم قد اقترب من العمارة الأخرى الذي يحرسها منذ 38 عاما: «بلغت الـ 78 عاما، وأنا أؤدي عملي منذ أيام جمال عبدالناصر»، قالها وهو يرى ان الزعيم المصري لا يمكن أن تبرحه الذاكرة، فعاد ليؤكد:«أظن اذا ذكرتك بعبد الناصر ستحدد السنة التي عملت بها هنا، كان صوته يملأ المدى، وأفعاله ترج المكان، الفرحة تغمرنا حينما يتعالى صوته من خلف المذياع، فلسطين كانت قضيتنا، وكان غالبية السكان من الجالية الفلسطينية الذين نزحوا من وطنهم بعدما أحكم العدو الاسرائىلي قبضته، ياسين صديق دريساوي هذا اسمي بالكامل، جئت من مدينة الأهواز، ووفقت بالعمل في حولي، وأوكلت الي حراسة العمارتين، إحداهما هدمت، وبنيت أخرى حديثة بدلا منها، وما زلت أحرسها، ولكنني أفضل النوم في البناية القديمة التي لم تهدم بعد،فهي تحمل عبق الماضي الجميل، وان كان الحاضر لا يقل روعة، فأنا أحب السنوات التي امضيتها في حولي القديمة، ومع ذلك لا يزعجني هدم البنايات، فمن الضروري هدم البيوت المتهالكة التي نسيها الزمن وتطوير المنطقة وتجديد عمرانها».
ويقف ياسين منتصبا بين عمارتي عبداللطيف الوزان رغم كبر سنه، الا انه لم يزل يحتفظ بعنفوانه وقوته: «آلاف من السكان عبروا من هنا»، ويشير ياسين باصبعه الى الشارع الترابي الذي يفصل بين العمارتين: «في البدء كان الفلسطينيون يشكلون الغالبية»، ويتندر بتشبيه المنطقة بالضفة الغربية، ويمضي: «ثم جاء اللبنانيون وخصوصا أهل الجنوب، وتبعهم المصريون والأكراد، الى ان ظهر الهنود والفليليبينيون، حتى سيطرت الجالية الآسيوية على المنطقة وكان ذلك في مطلع التسعينات».
وما مصير السكان الذين أزيلت عمارتهم؟ يقول ياسين: «خرجوا عن طيب خاطر، فقبل الهدم سكنوا ثلاثة أشهر مجانا، وتاليا منحوا 600 دينار قيمة ثلاثة أشهر، وهم يعرفون في قرارة أنفسهم انهم لم يظلموا، وهذا الأمر ينسحب على سكان العمارة الثانية اذا لاح موعد الهدام».
وعن المشاكل التي يقوم بها الشباب، وهل تعرض اليها، انتقض ياسين وقال بحدة وبلهجته الأهوازية: «اشحده اللي يسوي مشاكل لاعاد ليش انا أحرس البناية، عمي 18 شقة في كل عمارة، محد اشتكى، بالأول كان الايجار الشقة بـ 35 دينارا، والحين 70 دينارا».
ويسرح ياسين في بصره الممتد، حتى يصل مدينة الأهواز، «فضلت ان أتزوج في مسقط رأسي، ولم أشأ ان يعيش أولادي الغربة التي ذقت مرارتها، فلدي سبعة أولاد يعيشون في كنف والدتهم، وأنا أذهب اليهم كل صيف، وأمكث هناك ثلاثة أشهر».
هدوء وسكون يلفان المكان الممتد من دوار الكرد حتى شارع العثمان، فالبقالات والمحلات متواضعة، والقمامة تكسو أرضية المباني المتهالكة، وفي الأفق القريب فارق كبير، فإلى جانب البيوت الغريبة من الشكل العربي القديم بنايات من طراز عمراني حديث تملؤها اللمسات العصرية.
علامات العتاقة تبدو واضحة على وجه لطيف حاجية، الذي بدا وكأنه يعيش في فترة ليست من ضمن التاريخ الحديث: «لا أعرف غير هذا الحوش، لا أمتلك الموبايل، ولا البس أي ملابس «مودرن»، أنا رجل: «على باب الله»، هذه الأمور لا تغريني، الفلس اللي أجمعه أرسله الى أهلي في الأهواز، فهم أولى».
كثير من العبارات حفرت على جدران البيوت الايلة للسقوط، لكن اصحابها غادروا، وتركوها تدلل على وجودهم، ومن بين تلك العبارات: «فلسطين بلد الجبارين»، «بالروح بالدم نفديك يا فلسطين»، و«الأكراد أحرار»، وغيرها من العبارات التي لا تخرج عن هذه الأطر».
بحب جارف يتحدث الكردي عبدالله علي عن السنوات التي أمضاها في حولي: «قدمت الى الكويت في العام 1952 وسكنت في مناطق عدة حتى انتهى بي المطاف في حولي، وتحديدا دوار الكرد، لا يمكن انكار ان البيوت هنا خارجة عن المد العمراني، ولا تتوافق مع التطور الذي طغى على المنطقة، ومع ذلك هناك ذكريات سجلت في هذه الأحياء، لا يمكن ان تنسى، ففي المنطقة نفسها، وفي الشارع ذاته (شارع الكرد) مخيلتي ملأى بالحوادث»، ويتدارك «هذه هي سنة الحياة».
ويستعيد الكردي ذاكرته: «كانت بيوتاً طينية في مطلع الخمسينات، والطرق رملية، والحياة قاسية، فالكهرباء لم يصل تيارها الى كل أرجاء المنطقة، البساطة تكتنف الحياة، والقيظ الحارق يترك علامات في وجه الانسان، مثلما يفعل البرد القارس فعلته»، وفي حين كان الأب مستغرقا في عرض شريط عقود مضت، أمسك ولده أحمد 22 عاما بزمام الحديث: «ربما ان كبار السن تستهويهم هذه البيوت القديمة التي تحمل الأصالة على حد قولهم، ولكن المؤلم أنهم لا يعرفون حقيقة البيوت المهجورة التي باتت مرتعا لارتكاب الجرائم، ومسرحا للأعمال المشبوهة، فمن وجهة نظري ان ازالة هذه المباني من شأنه الحد من ارتكاب الأفعال المشينة، وعموما النقلة التي احدثها هذا التطوير العمراني افقدت هذه البيوت أهميتها، وعموما بلدية الكويت بذلت ما في استطاعتها من أجل تنظيف هذه البيوت التي تكثر فيها القمامة والقاذورات، وحان وقت ازالتها».
يمني محمد فؤاد (عامل مصري) نفسه بأن تتأخر جرافات البلدية التي تنوي ازالة البيوت القديمة في حولي، حتى يضمن بقاءه في البيت العربي الذي يقطنه بمعية 20 عاملا من بلده:«لا يمكن ان نجد ايجارا بهذا المبلغ، فالغرفة هن بـ 30 دينارا، ويقتسمها اثنان من العمال،ربما ان النظافة «مش ولا بد»، ولكن ظروفنا تحتم علينا العيش هنا في ظل الايجارات المرتفعة، عموما نحن نأتي من أجل النوم فقط، فلا تهمنا أي أمور أخرى، ولا أكتمك نحن نعرف ان الدور قادم، فقد جرت ازالة الكثير من البيوت، ومن المتوقع ان يزال هذا البيت العربي، علما بأننا أناس مسالمون، جئنا من أجل لقمة العيش، فنحن لسنا بلطجية».
ودعا محافظ حولي الفريق المتقاعد عبدالحميد الحجي الى «ازالة» البيوت القديمة في حولي، ففي وقت تشهد البلاد قفزة عمرانية غير مسبوقة، تبقى هذه البيوت علامة مشوهة لكل عوامل التطوير والتحديث في المنطقة، خصوصا انها أصبحت مرتعا للحيوانات الضالة، واستغلال البعض لها كمواقع للقمامة والمخلفات المنزلية ومسرحا لارتكاب الجرائم»، وقام الحجي بجولة تفقدية للبيوت المأهولة وغير المأهولة، وشاهد واقع حالها، وأمر بـ «الاتصال بأصحاب هذه البيوت تمهيدا لتوجيه انذارات لهم من قبل الجهات المختصة وخصوصا ادارة أملاك الدولة».