أوراق التقويم التي لاتزال معلقة على الجدران أجمل ألف مرة من تلك التي سقطت على الأرض، فهذه تحمل أحلاماً نتمنى أن تتحقق وأياماً نحلم بأن نعيشها ونتذوق فيها طعم الهناء، بينما تلك التي سقطت عرفناها وعشناها بحلوها ومرّها.. عانينا في نهارها وابتلعنا الحزن في لياليها التي ربما كانت ثقيلة على النفس.وعندما ننظر إلى أوراق التقويم الجديد ندعو اللّه أن تكون أكثر نصاعة من تلك التي سقطت في العام ،2004 الذي لا أعرف كيف أصف أيامه ولا لياليه.. فهو العام الذي بدأ بزلزال في المغرب وانتهى بطوفان في جنوب آسيا.. الأول حصد ما بين 900 قتيل ومصاب والآخر تراوح التقديرات ضحاياه بين 50 ألفاً وعشرات الألوف من المشردين والمصابين.. وبينهما كانت أحداث الإغتيالات، ورحيل الزعماء.. وأسراب الجراد والأحداث التي اشتعلت كالنيران التي تعجز الدموع على أن تطفئها أو تخفف من وطأتها. ما أكثر الأحزان في العام الذي مضى.. وما أكثر الآمال التي نحلم بها في العام الجديد.. وبين الحزن والأمل لابد من وقفات للتأمل والتفكر، فالعام الجديد سيولد من رحم العام الماضي وصرخة الأمل بولادته، قد لا يفصلها صرخات الألم التي ما زالت تذوي من آلام عام منصرم. عندما أهلت أولى أوراق تقويم العام الماضي كان الأمل يحدونا كالعادة بأن يكون عاماً مفعماً بالآمال والحوادث السعيدة لكن القدر لم يمهلنا للحظة لكي نحلم، فتحولت الأحلام إلى كوابيس سريعة متعاقبة، بدأت بمجزرة “إسرائيلية” في حي الزيتون في قطاع غزة، تلاها إغتيال زعيمي حركة حماس الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبدالعزيز الرنتيسي ولم يمر العام فإذا بالرحيل الغامض للزعيم التاريخي للثورة الفلسطينية ياسر عرفات والذي قيل إنه مات مسموماً، لكي تحيا القضية!! وياليتها تحيا بدلاً من أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. ولم يقتصر الحزن على رحيل الزعماء على أرض فلسطين، بل غمد خنجره في قلوب جميع العرب من المحيط إلى الخليج برحيل أنقى وأخلص الزعماء وأعني الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي بكاه كل رجل وكل امرأة وطفل من المحيط إلى الخليج.
وبين جراد الحقول الذي إلتهم الأخضر واليابس في رحلته التاريخية من المغرب العربي حتى أطراف الجزيرة العربية وجراد الإرهاب الذي أفصح عن وجهه القبيح في المملكة العربية السعودية حبس الملايين أنفاسهم خلال العام المنصرم، فكلاهما لا يرحم، وكلاهما يسعى لإلتهام قوت الأجيال القادمة وإحساسها بالأمان.
وإذا كان القضاء على الجراد الأول يقتضي رش المزيد من المبيدات فالجراد الثاني أخطر وأشرس وقد يزحف في كل إتجاه إذا لم نتكاتف جميعاً في حصاره والتصدي له.. أما الإنكسارات العربية - وليس هناك وصف أكثر تهذيباً لها - فحدث عنها ولا حرج في كثير من البلدان، بدءاً من موريتانيا التي إعتبرته عام الإنقلابات ونهاية بالعراق الذي سالت فيه الدماء وإنفجرت فيه العبوات الناسفة في وجوه كل الزعامات والمرجعيات الدينية والسياسية، ناهيك عن طوفان الدماء الذي أسالته قوات الإحتلال في بعقوبه والفلوجه والنجف والرمادي، وهي مذابح سوف يؤكد التاريخ بعد عشرات السنين أنها أفظع مما إرتكبه هولاكو في بلاد الرافدين، هذا غير وصمة العار الكبرى التي تفجرت بالكشف عن فضائح التعذيب في سجن أبو غريب.
وإذ كان الشيء بالشيء يذكر.. فالإنكسار يذكر، ففي السودان يمضي مخطط تقسيم هذه الدولة التي عشنا نحلم بأن تكون سلة غذاء العالم، بسرعة رهيبة، فبعد أيام أو أسابيع على حسم مشكلة الجنوب ضد الحكومة المركزية تتفجر أحداث دارفور، ليدرك الجميع أن النية قد باتت واضحة لتقسيم السودان إلى ثلاث دول وليس دولتان كما كان المتفائلون منا يعتقدون..!
ومن حصار عسكري للمدن العراقية إلى حصار سياسي لسوريا بالقرار 1559 الصادر من مجلس الأمن بضرورة الخروج من لبنان.
كل هذه الأحداث الجسام التي تحتاج إلى عشرات الكتب والمجلدات التي نحتاج لسنوات لقراءتها وتحليلها حدثت في عام واحد.. فكيف يمكن أن نذكر هذا العام، وكيف يمكن أن نبكي عليه؟ إنه عام “القرد” حسب الأسطورة الصينية الشهيرة أو حسب التقويم الصيني، وهو عام كان بالفعل كالقرد إنقلبت فيه الأوضاع رأساً على عقب.. فهل نحلم بأن ينصلح الحال عندما يطل عام “الديك” حسب الأسطورة نفسها؟
رغم كل شيء، علينا أن نحلم، وعلينا ألا نترك التفاؤل يهرب من نفوسنا وقلوبنا، وعلينا أن نحلم بأن تحمل أوراق التقويم المتكدسة أمام ناظرينا مزيداً من التفاؤل والأمل.. لعل صياح “الديك” الصيني يكون أقوى.. ولعله أيضاً يكون إيذاناً بميلاد جديد للأحلام في ،2005 حتى لو قيل إن سعادتنا في هذا العام “صنعت في الصين”.. ولم لا.. أليس كل ما نستخدمه من أجهزة واليكترونيات وملابس وحتى سجاجيد الصلاة صناعة صينية..! أدعو اللّه من كل قلبي أن يكون الغد أجمل من الأمس.. وأن يكون العام 2005 مليئاً بالأمل.