تدور الرحى، كما كانت تدور منذ قرون وما زلنا لا نعرف أين الوجهة ولا نعرف أين سبيل الحرية. انفجارات في الرياض ثانية بعدها ثالثة ورابعة وآخرها كان عند بوابة مقر وزارة الداخلية السعودية، وما زالت الرحى تدور ونحن لا نعرف من أتى بهؤلاء بيننا؟ وهل هؤلاء حقاً منا؟ «نحن شعب مسلم»، كما علمتنا فطرتنا وعلمونا في المدارس، وكما يزعمون! ومن ذا الذي يمولهم؟ هل هو من الخارج أم من داخلنا؟ ولماذا يجد هؤلاء بيننا تربة يتكاثرون فيها وأناساً يؤيدونهم؟ أسئلة قاسية يجب أن نواجهها اليوم بشفافية جديدة غير التي نمارسها، فعلى حد قول إحدى «كبار القوم» من الداعيات سبق أن قابلتها أثناء اشتراكي في ملتقى الحوار الوطني السعودي الثالث في المدينة المنورة «إن الحكومة تظن أنهم عدد قليل إلا أنني أقابل مئات بل آلافاً كل يوم في محاضراتي ممن يؤيدن هذا الفكر»... وهذا كلام خطير لا يجهر به إلا من أمن شره. حان الوقت فعلاً للكف عن القول أن هؤلاء هم فئة من أبنائنا وضلت وسنرجعها إلى الطريق الصحيح! وأنهم فئة غرر بهم وبنياتهم؟ ولماذا يجب أن نرجعهم نحن إلى الطريق الصحيح بعدما زرعوا الخوف في مدينتنا الآمنة؟
هذه المثالية المبطنة نعلنها... عندما نعلم أن ما ينتظر هؤلاء هو ما يستحقونه حقاً، ألا وهو الرصاص والبندقية... عقاب لن يتردد فيه مواطن ولا حاكم، بعدما كتب علينا أن نعيش مع أبنائنا بين كل هذه النقاط الأمنية المزروعة في البلاد، من أجل البحث عن هذه الفئة (البسيطة) الضالة! كتب علينا أن يبدأ أبناؤنا درسهم من مركبة السيارة كل صباح بتعرفهم الى منظر الرشاش والدبابة وهم في طريقهم إلى المدارس، كتب علينا أن نقف بلا جواب عندما يسأل الأبناء عن سبب المروحيات التي تحوم حول أسقف منازلنا كل يوم وهي تلاحق هذه «الفئة الضالة»... والسؤال الذي لا أجد له جواباً «ليش هم يا ماما ما يحبونا؟» للأسف، سادتي، هم بيننا آمنون، هؤلاء الذين يدعون للكره ورفض الآخر آمنون... فتجد مآذن مساجدنا تدعو على الغير في بلاد اخرى ليل نهار ولا تدعو على المخربين العابثين بأمن أوطاننا إلا بعد قرار وطني أجبرهم على الدعاء عليهم.
فدعونا نبدأ بتسمية الأشياء بأسمائها، ونكف عن الضحك على الذقون لنستطيع أن نبدأ بالحلول التي تخرجنا من المآزق التي أوصلتنا إليها سياسات المنطقة العربية، هذه السياسات التي حاربت الاستعمار سنين وعندما رحل استبدلته بنظم استبداد جديدة، جعلت من شعوبها رعايا لا مواطنين لأنها ببساطة لا تعرف سبيلاً إلى الحرية... فهؤلاء هم أبناؤنا وهم جزء من الرعية... نعم، لكن تسميتهم الحقيقية أنهم أبناؤنا الإرهابيون الذين هم نتاج لبرامج جيشوا فيها من فئات ما زالت بيننا وما زال بعضها يدس أفكاره من خلال أشرطة الكاسيت التي تباع بأسواقنا والتي تملك محلاتها جهات ترتزق بنا من ورائهم... بعضهم ما زال يدس أفكاره، مقابل دولارات، من خلال البرامج (التوعوية) كل يوم عبر التلفاز والقنوات الفضائية ليزرع الفتنة بيننا... فهؤلاء البعض الذين يسكنون بيننا ويفرخون لنا التطرف يتوسدون وسادة لينة ومريحة، لأن حجتهم معنا ومع الحكومة هي دائماً (الدين)، وكل انفجار مثل هذا يجب أن يلفت الرقابة إلى هؤلاء الذين هم بالأصل يختبئون بستارة الدين وهم بالواقع من اختطف الإسلام من بيننا، فتجدهم يحددون ويملون بنود هذا الدين علينا، مصادرين الحق في الاجتهاد في البحث داخل أصوله من «باب سد الذرائع» بحجة أن نعطي الطب للطبيبة وهم في هذه الحال أطباء الدين. ولكن اليوم وكل يوم تدوي فيه بآذاننا انفجارات في مدينة مثل الرياض، التي أكثر ما عرف فيها هو استتباب أمنها، بدأت أشك بأدويتهم وطبهم... فالفرقة والتضاد بيننا ازدادت وأصبحت الحال الجديدة هي نحن وهم، بعدما كنا جسداً واحداً... لأنهم على مذهب الرئيس الاميركي جورج بوش إن لم تكن معهم فأنت بالأكيد ضدهم... فهؤلاء الناس وبكل بساطة هم نتاج رجال ونساء يمرون بجانبي عندما أكون مع ابني، نلعب في أحد مرافق مدينتي، ويعطون لأنفسهم حق التهجم على الغير بأن يعكروا سعادة طفل بترويع أمه، مرددين عبارات الاشمئزاز ونظرات التجريح، مستغفرين الله تعالى على حالي، لأنني قررت أن أمارس حقي الإنساني في أن أختار... فقررت أن يكون حجابي لا يشمله غطاء للوجه، وهذا للأسف يجب أن أدفع ثمنه كل يوم من ناس داخل أرضي من مواطنين مثلي...
والغريب المحزن وسط كل هذا أن أشد الرقابة اليوم ما زالت تنصب على العلاقة بين المثقفين والعامة، مثلما هناك رقابة علي وأنا أخط لكم مقالي هذا من رئيس التحرير الذي لا أعرف إن كان سيجيزه ام لا؟ وخوفاً من أن يبث المثقف دسائسه للعامة، فتجد معظم مواقع المثقفين الليبراليين عبر الإنترنت تحجب، وتترك بعض المواقع التي تروج للفكر المتطرف مسموحة، وعندما تدخل بعضها لتقرأ ما ينشر فيها لا تجد إلا التجريح والتكفير والكره، وتستغرب من الناس الذين تعيش أنت بينهم... فقد حكى لنا التاريخ كيف أن ساعي البريد كان هو المخبر الذي يبث عيونه داخل الأظرف التي يتسلمها وكيف أنه يفتح آذانه في الأسواق والمساجد لينقل أقوال المثقف وتحركاته خوفاً من أن يكون داعية لمذهب مناوئ للسلطان... واثبت التاريخ أن الخطر لا يأتي إلا من التطرف الأحادي التفكيري، وها نحن اليوم نجد أن السهام تتجه وجهة أخرى من الاتهام... والثورات هي الأخطر عندما تأتي من الأطراف، أما الثقافة عندما تكون حقيقية، فإنها تأتي بفلسفة تساعد الأجيال على تغيير نظرتها الموروثة للكون، وتعطي العالم معنى مختلفاً عن معناه عند الأجداد، فالثقافة ينبغي أن تغير الإنسان وموقفه من الحياة، وكل ثقافة تدعو إلى عكس التقدم والتطور هي دعوة مفتوحة للهلاك من باب التحجر والتخلف والجهل... ولم يعد هناك وقت، فهم نعم النتاج لثقافة زرعناها، ولا أعرف كيف أنه في الوقت الذي يحصد العالم الحرية نبقى نحن في عالمنا العربي نشيد السجون والقبور للنزلاء الجدد بيننا الذين يسعون للدم والنحر والغوغائية...
... «ولكنها تدور» هكذا قال غاليليو لمحكمة التفتيش...