هناك مقولة مشهورة لويليام شكسبير A Plague on both their houses ... أردت أن أستهل بها المقال في تناولي لبدايات الترويج لـ«خزانة تفكير عربية» Arab Think Tank كتطور لخلاف بين مؤلفي النسخة الجديدة لتقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية «العربية» ، وبين الولايات المتحدة الأمريكية . ورغم الاعتقاد السائد ـ وفيه كثير من الصحة ـ ان حكومات الشرق الأوسط تفضل الوضع الراهن Status Quo على الإصلاح، ألا ان كتاب التقرير قصروا اتهامهم على واشنطن والقاهرة بانهما تحاولان حجب التقرير.
الاتهامات على قيمتها الظاهرة At face value تناقض مبادرة ادارة الرئيس جورج بوش، بالإصلاح وتقديم جرعات الديموقراطية او باعادة النشاط النيابي الديموقراطي الذي عطلته الانقلابات العسكرية .
اتهم كتاب التقرير، على لسان محرره نادر فرجاني، مصر وامريكا، بالضغط على الأمم المتحدة والتهديد بسحب 12 مليون دولار من دعمهم المالي من برنامج التنمية البشرية ـ والتقرير السنوي جزء منه ـ ، او كله (100 مليون دولار في تصريح آخر لرويترز) لأنهما، مستاءتين من انتقاده لإسرائيل والوجود الأمريكي في العراق. «لم نطلع على التقرير» .. قال لو فينتور، المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية لوكالة الأنباء الفرنسية ، فيما نفى وليام اورمي، متحدث برنامج التنمية البشرية، وجود ضغوط، مشيرا الى اعراب القاهرة وواشنطن عن «قلقهما» قبل اسابيع تجاه فقرات في مسودات اولية للتقرير، «لكن هذه المسودات تغيرت وتعدلت في النسخ النهائية» كما يقول ، خاصة ان المسودات جاءت من حوالي مائة من «المتخصصين» في المنطقة.
مؤلفو التقرير هددوا باللقاء في بيروت لأصداره باسمهم الخاص ، وليس تحت شعار الأمم المتحدة ، واتهموا واشنطن بالتدخل في كتابة التقرير الأول الذي اصدروه قبل ثلاثة اعوام ـ وكان المنجنيق الذي اطلقوه الى عالم الشهرة وشاشات الـ «سي ان ان»، من محيطهم الأكاديمي الصغيرـ كي يصدر مطابقا للتصور الأمريكي عما اسموه «العالم العربي» (اثار التقرير وقتها ردود فعل متباينة، عن مقارنات بان ما يترجم في اسبانيا من الكتب في عام يفوق ما تمت ترجمته في المحيط الذي اسموه «العالم العربي»، ناهيك من قهر المرأة وانتشار الأمية والفقر، حيث يقل دخل العربي عن دولارين في الشهر، وغياب الديموقراطية وتناقص اعداد طلاب البعثات الخ). ساقت إدارة بوش الصورة القاتمة التي رسمها التقرير الأول كمبرر لإطلاق مبادرة اصلاح الشرق الأوسط الكبير التي عارضتها الحكومات الديكتاتورية، والصحفيون الدائرون في افلاكها، وحتى معارضيها (من تحالف الأصوليين، وبقايا اليسار الستاليني، والتيار القومجي العربي البعثي الناصري).
لماذا سكت مؤلفو التقرير ثلاث سنوات عن «التلاعب والتدخل» الأمريكي في كتابة تقريرهم الأول ـ الذي كان «قدم السعد» عليهم ـ وخطر ببالهم ان يخبرونا الان فقط ؟
هل كان «التلاعب والتدخل» الأمريكيان حلالا مقبولا عام 2002 ، واصبحت الاعتراضات حراما بغيضا اليوم؟
ومع عزم ـ او وعد ـ كتاب التقرير بتمزيق الحبل السري الذي يربطهم بالأمم المتحدة او الولايات المتحدة ، باعتبارها مقدم الدعم الأكبر لبرنامج التمنية البشرية، خاصة ان لا احد يبحث او يؤلف تقارير «ببلاش» ، باصداره عقب لقاء بيروت، مستقلا، فالسؤال المشروع : من (وما هي دوافعه ومصلحته) الذي سيمول اللقاءات والسفر والإقامة، والتحرير والطباعة والتوزيع؟
ومن اين سيأتي دعم تأسيس «خزانة التفكير العربية»، اذا صدقنا حكاية منع الدعم الأمريكي؟
وادعو الجميع، افرادا ومؤسسات وحكومات، الا يقعوا ضحايا الاحتيال. وارجو الا يتبرع احد، او يستثمر احد، مليما او بنسا Pennyواحدا في هذا المشروع المسمى بخزانة التفكير، فالأحمق فقط يتناول الوجبة بعد اكتشاف فساد «الأورديفر». اعتبرت التقرير الأول ضحكا على العقول، واستهانة بقدراتنا العقلية. انها عملية نصب ذهني لم يسبق له مثيل. صحيح ان اجزاء ـ واشدد اجزاء فقط ـ من التقرير تم بحثها على الأرض في مناطق معينة مما اسموه «العالم العربي»، واغلبها في افريقيا وليس بلاد العرب، وبعض الأرقام الجزئية قد يكون صحيحا، الا ان تعميمه واعادة تركيبه لا يمتان لواقع المنطق بأية صلة.
ناقض التقرير الأول حقائق الجغرافيا، والديموغرافيا، والبيولوجيا، والتاريخ ، فجاء كمسخ الدكتور فيكتور فرانكنشتاين، في كلاسيكية ماري شيللي. جمع اطراف وانسجة واعضاء جثث لا تربطها اية صلة ورقعها وحرك ذاكرة عضلاتها بصاعقة كهربية، فانتفض المسخ ، رغم غياب العقل والروح ، ورقص الدكتور فرانكنشتاين مدعيا انه خلق انسانا !
ولذا ضحك المؤرخون والباحثون والمتخصصون الذي يعرفون المنطقة جيدا كتضاريس كفوف ايديهم، من التقرير الأول .
«العالم العربي» هو تعبير مجازي يستخدمه الصحفيون وخطباء السياسة، «كعالم الفن»، و«عالم الموضة»، و«عالم الرقص البلدي»، والمتوقع من التقارير الأكاديمية، خاصة عندما تكون اساس رسم استراتيجية عالمية، ان تصمم على التعبيرات العلمية وتتعامل مع الحقائق فقط .
هناك امم «تعربت» سياسيا بحكم ظروف تاريخية او خيارات الديكتاتوريات ، او ظروف الاقتصاد بدخولها معاهدة دول الجامعة العربية (وبعض الشعوب لا تتكلم العربية، او ليست عربية عرقيا) ومع ذلك جمعها التقرير في كيان واحد مع سكان جزيرة العرب. فهكذا اراد الأمريكيون ان يقرأوا التقرير «وكله عند الأمريكان صابون».
هل تتساوى قبائل افريقية، تتحاور بالحراب ككيان سياسي، مثلا مع تركيبة مصر التي طور فيها محمد علي باشا وأولاده حكما برلمانيا منتخبا قبل قرن ونصف ؟
وإذا كان اصلاح التعليم فيها يسهل بالعودة الى مناهج وزارة المعارف قبل 1958 ، قبل جهل الصاغ كمال الدين حسين، فهل ينفع ذلك لمعالجة الأمية في اليمن او الصومال؟
وهل تتساوى مشاكل الأخيرة، كالقات وتدهور الاقتصاد، مع الممارسات الاقتصادية للبنان وتجربته البرلمانية ومجتمعه المتحرر؟
وهل يدخل العقل جمع الاقتصاد الكويتي والإمارتي مثلا مع اقتصاد ارتريا والسنغال والخروج بالرقم المضحك لدخل «العربي»، اذا كان هناك شخص واحد في العالم يدون التعبير كجنسيته في اوراق قانونية رسمية ؟
بحث زميلنا بريان ويتيكار من «الغارديان»، كيفية وصول تقرير عام 2002 الى الأرقام الخاصة بعدد الطلاب «العرب» المرسلين في بعثات لأمريكا. وقد اتصل الباحثون «المتخصصون» تليفونيا بثلاث سفارات لأعضاء في الجامعة العربية في واشنطن، لمعرفة عدد الطلاب من رعاياهم المدونين لدى السفارة، وادخلت الإجابات في الكمبيوتر الذي صمم نموذجا قياسيا (ولتلعنني السماء اذا فهمت ما يعنيه هذا !!) فخرج برقم اجمالي لبقية البلدان الأعضاء في الجامعة!!!
حجة الديكتاتوريات هي تأجيل الإصلاح الى ما بعد حل القضية الفلسطينة.
وضع الجميع في سلة واحدة اسمها «العالم العربي» هو وصفة اخرى لتأجيل الإصلاح الى الأبد. «لا بد ان يأتي الإصلاح من داخل البيت العربي» صاحوا بعنترية، والمقصود الديناصور الميت المسمى بالجامعة العربية ومؤتمراته «للإصلاح» رغم غياب ابسط تنسيق كتعريفة جمركية موحدة مثلا، او تسهيلات للتسويق والسفر.
الرجل الذي يرفض اصلاح بيته المتهدم، بانتظار «مؤتمر الشارع او الحي» لإصلاح جميع البيوت رغم انه لا يعرف حتى اسم جيرانه، يضمن ان الترميمات لن تتم في حياته !
عند فقدان ثمرة جهدهم لمصداقيته مع العقلاء والمتخصصين، وجد مؤلفو التقرير انفسهم هدفا لغضب التحالف المناهض للتقرير، وللحكومات، حسب مصدر ديبلوماسي، يقول ان درعهم الواقي في التقرير الجديد، واستمالة للديماغوجيات الشعبية كان الهجوم على اسرائيل، وعلى الوجود الأمريكي في العراق، برغم عجزي عن اكتشاف علاقة احتلال العراق بانتهاك حقوق الإنسان في دارفور او ليبيا، او انتشار الرشوة في بلدان المنطقة. وهذا وراء اعتراض بعض الأمريكيين، حسب قول الديبلوماسي نفسه، على فقرات انتقاد امريكا ، خاصة ان هناك تيارا داخل المحافظين الجدد حساسا لانتقاد ما يعتبرونه بعثة تبشيرية جديدة نحو عالم افضل.
ولذا فرغم النوايا الطيبة، فإن السياسة الخارجية الأمريكية الحالية (ان كانت هناك سياسة خارجية على المدى الطويل اصلا) اذا لم تتغير، عمليا، ستجر العالم الى كوارث أكثر مما تقدمه من اصلاحات. وبالمقابل فإن مؤلفي التقرير «المتخصصين»، رغم دعوتهم للنشر مستقلين ، وخلافهم الحالي مع واشنطن، هم مكون اساسي من هذه السياسة الأمريكية الكارثية . ولذا، وبضمير مرتاح، استعير قول وليام شكسبير «فليأتي الطاعون على ديار الاثنين معا».