يختتم العام 2004 على مشهد الزلزال الآسيوي والطوفانات التي أزهقت عشرات آلاف الأرواح. يذكّر هذا الحدث الطبيعي بأن الإنسان صغير فعلاً، وأن مصير البشرية مهدد بما هو خارج إرادتها تماماً. لا تقاس الفواصل بين التحوّلات الكبرى إلا بآلاف السنين (وأكثر) ولكن ما المانع أن يحصل ما ليس بالحسبان.
أحدثت الكارثة صدمة يعيشها العالم كله. لن نعرف إلى متى تستمر ارتداداتها. ولكن الأهم أن الإنسان المتصاغر أمامها قد لا يخرج منها بالدروس الواجبة. تمنع الأنانيات على أشكالها، الوطنية والدينية والإثنية، من اكتشاف المشترك في عالم يزداد كل يوم توحداً وتفرقاً: تتوحّد الأسواق ويتفرّق الناس.
قد يبدو مضحكاً من يقترح ترتيب الأولويات بحيث تأخذ المخاطر المشتركة المكانة التي تستحق. سيقود ذلك إلى ترتيب لأوجه الإنفاق يسير في اتجاه معاكس تماماً لشهوة الربح السريع التي يستفيد منها قلائل والتي جعلت المال صنماً يوحّد تداوله الزمان والمكان.
يهبّ العالم للقيام بواجب الإغاثة. لكنه يهبّ بتفاوت. والأخطر من ذلك أن الميل الراجح هو تجنّب طرح السؤال الكبير: هل كانت الوقاية ممكنة؟ هل يمكن للتدخل البشري أن يمنع كوارث من هذا النوع؟ أليس هناك ما يستوجب الاحتفاظ بالقدرة على الاستنكار، وبالغضب، وبمنع الاستكانة إلى lt;lt;ما ليس في الإمكان تغييرهgt;gt;؟
المأساة حارقة حيث هي. حارقة لشعوب فقيرة وللفقراء ضمن هذه الشعوب. ولكن من يلاحظ، كما يجب، أن بلداً مثل سيريلانكا تعرّض للطوفان الطبيعي هذه المرة بعد أن كان تعرّض إلى سيول تسبّب بها ما يؤكده العلماء من ارتفاع في حرارة الأرض ومن ذوبان للثلوج.. هذه أسباب بشرية أي أن هناك من قاد إليها لأنه يغلّب نزعات استهلاكية منفلتة من أي ضابط، ولأنه يرفض قيوداً تحد من الربحية، ولأنه ينفذ سياسة تأمر بها شركات ومصالح ضيقة الأفق.
المأساة حارقة حيث هي. غير أنها مشهدية جداً على صعيد عالمي. كثيفة في عنفها وزمنها. وليس أسهل، حيالها، من نفض اليدين، من الاشتراك في المؤاساة. ولكن ذلك لن يغيّب أن العالم، اليوم، يضج بمآس بمثل هذه الضراوة.
من يعد ضحايا الأوبئة في العالم؟ من يسأل عن الاجتثاث الذي تتعرض له نخب أفريقية بفعل lt;lt;السيداgt;gt;؟ من يهتم لعدد من يموتون جوعاً؟ كم طفلاً في الدنيا لا يبلغ الخامسة من عمره؟ الأرقام، هنا، بالملايين غير أن الكاميرا ليست حاضرة تماماً، والصفحات الأولى في الصحف ملتهية بأخبار نجوم السياسة والاقتصاد والبزنس والرياضة والفنون والأزياء... هل هذه صدفة؟ كلا بالتأكيد. فهذه المآسي هي مما يمكن تجنبه، أو السيطرة عليه والإقلال من أضراره. غير أن ذلك لا يحصل لأن التنمية أصبحت شتيمة، والملكية الفكرية لشركات الأدوية مقدسة، والإنفاق على الإعانة متناقص لصالح الإنفاق على السلاح، والضرائب على الأغنياء لعنة، والتبادلات التجارية والدولية تتم لصالح الأقوياء والأغنياء. إن حركة رؤوس الأموال من العالم الثالث إلى lt;lt;العالم الأولgt;gt; أكثر غزارة من الحركة المعاكسة. والتبرير لذلك جاهز: الداروينية الاجتماعية تحسم في أن البقاء للأفضل أي لأقلية بشرية ذات امتيازات محمية بالقوة والعنف والحروب.
يتهم أميركيون أوروبيين بأنهم يحددون لأنفسهم خصوماً سهلين لأن ذلك يلائم ضعفهم في حين أن الولايات المتحدة، شعوراً منها بقوتها، لا تتردد في تعيين خصومها حيث هم.
lt;lt;الخصوم السهلونgt;gt; هم الأوبئة، والجريمة المنظمة، والفقر، والتخلف، والأميّة، والأهداف التي قررتها قمم دولية عديدة. ليست أوروبا بريئة تماماً من الخبث والرياء، غير أنها أفضل من الجموح الذي يضرب الولايات المتحدة هذه الأيام.
ففي وقت يشيّع العالم عشرات آلاف الضحايا لم يجد جورج بوش عدواً يدعو العالم إلى محاربته سوى الرجل المسمى أسامة بن لادن! أي أن ما يمكنه أن يكون عملية بوليسية بسيطة بات المهمة المركزية لشعوب الكرة كلها.
لقد اختتم العام بإشارة مرعبة إلى ما يتوجب القيام به، وبإشارة مرعبة، هي الأخرى، عمّا يقترحه رئيس الدولة الأعظم.