يمكن القول بصفة عامة أن عام 2004 كان عاما متميزا بالنسبة لآسيا. فعلي الرغم من بعض العمليات الإرهابية المتفرقة التي شهدتها اندونيسيا و تايلاند والفلبين والهند والباكستان وأفغانستان، وبعض الأكلاف الاقتصادية الإضافية التي تحملتها أقطار في جنوب وشرق آسيا كنتيجة للتصاعد الكبير في أسعار النفط المستورد، فان الصورة العامة كانت مريحة وباعثة علي التفاؤل.

حيث استطاعت الأقطار الآسيوية بفضل تكاتفها وتعاونها أمنيا ومخابراتيا أن تحد كثيرا من أعمال الإرهاب وتوقف العديد من رموزه وتتعقب مصادر تمويله، وبما أسقط تنبؤ البعض باحتمالات حدوث عمليات بربرية كبري فيها.

وعلي الجبهة الاقتصادية، حافظت آسيا علي معدلات نموها الجيدة بنسبة تراوحت ما بين 6 و 7.5 بالمئة كنتيجة لقوة الطلب المحلي وزيادة معدلات التصدير. وزادت الاستثمارات الخاصة المتدفقة إلي الدول الخمس الأكثر تضررا من توابع أزمة 1997 النقدية (اندونيسيا وتايلاند والفلبين وماليزيا وكوريا الجنوبية) بمقدار 8 بلايين دولار عن عام 2003، وبما عكس تزايد ثقة المستثمرين بمتانة اقتصاديات هذه الدول. وانطلقت الأقطار الآسيوية سوية تدشن مناطق التجارة الحرة فيما بينها كمقدمة لبناء السوق الشرق آسيوية المشتركة علي نحو ما شهدناه في القمة الآسيوية الأخيرة في عاصمة لاوس.

أما سياسيا، فقد شهد عام 2004 ، بالمقارنة بالأعوام السابقة، تواري شبح الحرب وحدوث انفراجات في بعض الملفات الملتهبة ، لعل أبرزها اتجاه قطبي شبه القارة الهندية نحو حل خلافاتهما المستعصية عبر التفاوض الثنائي بدلا من اللجؤ إلي التهديد والاستنفار العسكري كما كان الحال في الأعوام السابقة.

إلا أن التطور الايجابي الأبرز تجسد في انتشار وترسخ المنحي الديمقراطي، الذي بدأ في منتصف الثمانينات بسقوط الديكتاتوريات في الفلبين وتايوان وكوريا الجنوبية وتايلاند ولاحقا في اندونيسيا، وذلك من خلال تواصل الانتخابات البرلمانية والرئاسية بطريقة سلسلة والانتقال السلمي للسلطة وتزايد أعداد منظمات المجتمع المدني وأنشطتها التوعوية والرقابية وضغوطاتها من أجل " الحكم الصالح" والشفافية ومكافحة ظواهر الفساد واستغلال النفوذ وشراء الأصوات الانتخابية. ويكفي دليلا علي ما نقول أن أكثر من مليار آسيوي توجهوا في عام 2004 إلي صناديق الاقتراع لاختيار من يحكمهم في ثمان دول ( الهند وأفغانستان والفلبين واندونيسيا وكوريا الجنوبية وماليزيا ومنغوليا وتايوان) إضافة إلي هونغ كونغ، وهو ما لم يحدث من قبل في هذه المنطقة.

في كل هذه الدول جرت الانتخابات بشفافية أكثر من ذي قبل وبعنف أقل، وقبل الخاسرون نتائجها دون عصيان أوتحريض. ففي الفلبين مثلا التي بدت قوة مرشحيها الرئيسيين للرئاسة متقاربة، سلم المرشح الخاسر "فيرناندو بو جي آر" بخسارته أمام الرئيسة "غلوريا ماكابجال أرويو" من بعد تردد، ولم يحدث ما توقعه الكثيرون من عصيان مدني أوثورة شعبية شبيهة بتلك التي أسقطت جوزيف ايسترادا في عام 2001 أوفيرديناند ماركوس في عام 1986 . وفي اندونيسيا جرت الانتخابات الرئاسية للمرة الأولي في تاريخها مباشرة، فلم تشهد انتهاكات أوأعمال عنف رغم حدة المنافسة وكثرة المترشحين الأقوياء واضطراب الأحوال الأمنية في البلاد، لتسقط الرئيسة ميغاواتي سوكارنو بوتري وتأتي بالجنرال المتقاعد "سوسيلو بامبانغ يودويونو"، القادم حديثا إلي عالم السياسة وأقل المترشحين نفوذا وإمكانيات. وفي أفغانستان مرت الانتخابات الديمقراطية الأولي في تاريخها بسلام، وسقط رهان قوي الظلام والإرهاب والتخلف علي إفشالها، لتبدأ مرحلة قيام دولة القانون والمؤسسات التي حرمت منها هذه البلاد طويلا. وفي كوريا الجنوبية جرت في ابريل الماضي ما يعتقد أنها أنظف انتخابات تشريعية، فأسقطت رؤوسا محافظة كثيرة لطالما تشبثت بمقاعدها عبر التزوير أواستخدام المال السياسي، ووضعت في أماكنهم ساسة أكثر شبابا وديناميكية واقل فسادا. والأمر الآخر الذي عزز الديمقراطية الكورية أن المحكمة الدستورية تصرفت بشفافية وبوحي من القانون إزاء محاولات قوي المعارضة المحافظة لإسقاط الرئيس المنتخب "روه مو هيون" بحجج مشكوك فيها، فقررت إبقاءه في منصبه. إلي ذلك شهدت ماليزيا في ظل رئيس حكومتها الجديد عبدالله احمد بدوي توجها رسميا جديدا وغير مسبوق لجهة محاربة الفساد وفتح التحقيقات حول انتهاكات الشرطة لحقوق الإنسان وتقديم شخصيات حكومية وحزبية للمحاكمة، الأمر الذي توج بالإفراج عن المعارض السياسي الأبرز نائب رئيس الوزراء الأسبق أنور إبراهيم.

أما الهند فقد أثبتت من خلال انتخاباتها التشريعية في ابريل/مايو أن ديمقراطيتها لا تزال صامدة ومتينة، بل قدمت درسا جديدا في سلاسة انتقال السلطة من الحزب المهزوم إلي الحزب الفائز، وفي اكتراثها بالهوية الدينية أوالاثنية لمن يقودها، وذلك حينما منحت قيادتها لسياسي ينتمي إلي الأقلية السيخية التي لا تشكل سوي 2 بالمئة من مجموع عدد السكان.

إلا أن الأقدار شاءت ألا يسجل عام 2004 في تاريخ آسيا كعام متميز و سعيد. فالزلزال العنيف المتجاوز في شدته لأقصي درجات مقياس ريختر بدرجة والذي ضرب مؤخرا قاع المحيط الهندي عند سومطرة وولد ما يعرف بظاهرة التسونامي tsunami كلمة يابانية مكونة من "تسو" أي ميناء و"نامي" أي موج، وتستخدم للإشارة إلي المد البحري العنيف الذي يضرب السواحل بقوة كنتيجة لحدوث انشقاقات في قاع البحر) - حول 2004 في نظر الآسيويين إلي عام مشئوم وكإرثي بكل ما تعنيه الكلمة من معني . كيف لا وقد تسبب التسونامي بزيارته المفاجئة لسواحل تسع دول دفعة واحدة في مقتل أكثر من 70 ألف آسيوي (حتي ساعة كتابة هذا المقال) وإيقاع خسائر مادية ببلايين الدولارات، مع توقعات بالعثور علي آلاف أخري من الجثث وحدوث وفيات بعشرات الآلاف كنتيجة لانتشار الأوبئة.

إن احد أسباب وصول الخسائر البشرية والمادية إلي هذا الحد المهول هوخلو منطقة المحيط الهندي من مراكز الإنذار والتحذير المبكر ضد التسونامي كونها لم تشهد من قبل مثل هذه الظاهرة، بل لم تكن قط ضمن المناطق المحتمل تعرضها للظاهرة، أي علي العكس من مناطق في المحيط الهادي مثل هاواي وألاسكا اللتين لهما سوابق مع التسونامي وبالتالي أنشأت فيهما مراكز للرصد والإنذار.

وبطبيعة الحال فان كارثة إنسانية بهذا الحجم المرعب، لن تستطيع منظمات الإغاثة الوطنية مهما أوتيت من إمكانيات أن تخفف من آثارها. وبالمثل فان منظمات الإغاثة الأممية لن تتمكن هذه المرة من تقديم المساعدات الضرورية بمفردها، مثلما كان حالها في كوارث سابقة، لأنها اليوم أمام تحد غير مسبوق يتمثل في وقوع الكارثة في دول عدة في آن واحد.

وهكذا فان أي نجاح للتعامل مع نتائج هذه الفجيعة الآسيوية لن يتحقق إلا بجهد اغاثي ضخم تقوده الدول المتقدمة والغنية ومؤسساتها الرسمية والشعبية. وفي يقيني أن هذه فرصة جيدة للدول العربية والإسلامية - ولا سيما المقتدرة منها - ومنظماتها الخيرية الأهلية وشعوبها المسلمة أن تثبت للعالم، من خلال مد يد العون بسخاء لضحايا الكارثة في كل الدول المصابة دون تمييز ديني أوعرقي، أن عقيدتها ذات وجه إنساني ويحمل لواء المحبة والأخوة والتضامن ما بين كل البشر، وأن مساعداتها الاغاثية والخيرية تستوعب أيضا من هم ليسوا علي دينها.