محمد مظلوم ـ المستقبل :خبر قصير نشره عدد من الصحف البغدادية مؤخراً،عن تكريم وزارة الثقافة للفنانين الرواد، أشار إلى حضور السيدة عفيفة اسكندر بين المكرمين.
خبر قد يبدو نوعاً من البطر، وضرباً من إشاعة الخدر، وسط أخبار تتوالى من بغداد، على مدار الساعة عن تفجيرات متنقلة، وقتلى يصعب حصر أعدادهم على وجه الدقة.
لكنه وحده هذا الخبر من حمل رسالة مختلفة وإشارة من نوع آخر وسط تشابه رسائل الموت اليومي، أبسط ما يقال عنها إنها رسالة تتحدث عن الحياة لا عن الموت، فهو خبر يؤكد يقيناً كاد يتبدد، بأن الفنانة عفيفة اسكندر لا تزال على قيد الحياة، ولا تزال في العراق وفي بغداد تحديداً!
وأن تحضر عفيفة اسكندر بين رواد دار الإذاعة العراقية المكرمين، لمناسبة مرور 68 عاماً على تأسيسها ، فإن ذلك ليس الحدث الأبرز في الخبر، رغم ان هذه السيدة وحدها، تراث حي أكبر من عمر الدولة العراقية، زمنياً على الأقل. فهي كانت من بين أوائل المطربات اللواتي سجلن أغانيهن بالإذاعة بعد تأسيسها، لكن أهمية الحدث تكمن في معاودة هذه الفنانة، المحتجبة، ظهورها أمام الإعلام للمرة الأولى بعد حوالى ربع قرن من الاحتجاب الذي تداخلت فيه الإرادة الشخصية بالظروف التي دفعتها إليه.
وما بين الاحتجاب والعودة للظهور، تتلخص القصة التي لم يجر سردها كما ينبغي.
فهو احتجاب يحمل معنى الاحتجاج، على ربع قرن من الزمان الذي انقضى.
وهي معاودة للظهور فيما تحاول البلاد، برمتها، النهوض من رميمها!
وهي بهذا تمثل صورة العراق الغائب أو المغيَّب، فطيلة ربع قرن غابت خلاله عفيفة عن العطاء الفني وعن الظهور العام، تحول الغناء العراقي إلى سيرك حقيقي، هو خليط من المجانية والنفعية لم يبق من الفنانين صغير أو كبير، أنثى أو ذكر، إلا وتناوب على دور المهرج فيه.
كيف استطاعت هذه المطربة، إذن، أن تتنحى جانباً، كل هذا الوقت، دون أن تلوث صوتها بكلام حتى وإن كان محض حديث عن ذكريات وتذكر؟
في كتابه "أخبار النساء" يروي ابن الجوزي البغدادي عن الأصمعي أنه رأى في البادية أعرابيّةً لا تتكلّم، فتساءل: أخرساء هي؟ فقيل له لا، ولكن حبيبها كان معجباً بنغمتها فتوفي، فآلت أن لا تتكلّم بعده أبداً.
وبينما توالت العهود على العراق من ملكي إلى جمهوري متعدد الأشكال إلى دكتاتورية واحتلال، لم نعرف لعفيفة اسكندر غناء لعهد أو ذماً لآخر، سوى للوعة التي تتركها تلك العهود، ولم نسمع الوطن إلا في بحر المحبة الفائض الذي يتدفق من كلمات أغنياتها.
مع هذا واصلت عفيفة اسكندر حضورها متعدد المستويات في الأغنية العراقية، وفي "كاريزما" من نوع خاص، ارتبطت بالنخبة على الأغلب، قبل أن تغيب، معلنة اعتزالاً غنائياً معروف الأسباب، في جهنم الغناء من أجل المعركة، وتحول جميع المطربين إلى كورس موحد، يلهج بصفات الدكتاتور. قبل أن تغيب غيبتها تلك كانت عفيفة قد تركت عهداً من الشجن الآخر الذي لم يعد متاحاً منذ غيابها.
ولعلّها الوحيدة من بين جميع المطربين العراقيين على الإطلاق، ممن بقوا داخل العراق، التي لم تظهر لا في غناء فردي ولا في كورس جماعي كي تمجد الحروب، على إيقاع مقتل العراقيين الذين لم يؤبنهم أحد، كأنها كانت عفيفة الصوت، ووفية لمن أحبّها ممن ذهبوا ومن تبقوا، لعلها تذكرنا بتلك المرأة التي صادفها الأصمعي، في البادية، ولم تطلق صوتها، الذي أحبه الراحلون، من بعدهم.
وإذا كانت السلطة قد نجحت في جرّ الجميع إلى سيركها، من رواد إلى مريدين، بما في ذلك، جر (رجل) سيد المقام العراقي محمد القبنجي، إلى ساحة المعركة بينما كانت رجله الأخرى في القبر، فإن عفيفة احتفظت بدلالة اسمها في معتكفها المقدّس، ولم تدخل في أفواج جنود "الفيلق الثامن"، الاسم الذي أطلق على طابور الإعلاميين والأدباء والكتاب والفنانين الذين غنوا للدكتاتور وحروبه في كورس موحد تقريباً.

الشاعر والشيخ والضابط الملكي
غنت عفيفة اسكندر اللون البغدادي، الذي يبدو غائباً، في الراهن، عن مجمل الغناء العراقي، ولم تبدُ وقتها ثمة مسافة ممكنة بين أصوات درجت على تأدية ألوان المقام العراقي، وأطوار الغناء الجنوبي، ومع أن ثمة خصائص واضحة تسربت إلى الغناء البغدادي، من تأثيرات المقام العراقي، لكنها لم تكن بذلك الوضوح في أغانيها ذات اللحن السريع الذي ينظر إليه راهناً بمثابة نقلة نوعية في طبيعة الأغنية العراقية التي كانت سائدة آنذاك، والمتمثلة بتأثيرات الأدوار المصرية، والمواويل التي تنحدر أطوارها من جغرافيا مناطق العراق.
فأغانيها الأولى حملت نكهة الشارع البغدادي، بعباراته الشائعة وبلاغته الخاصة وبنحته للجملة من لهجة لا يمكن أن تتداخل معها لهجات المناطق الأخرى؛ بيد أن أجواء بغداد المخملية في الأربعينات والخمسينات كانت تحمل مزاجاً لا يكاد يفصل بين ما تفرزه الحياة، وما يستعيره الفن من تلك الإفرازات، فيتدثر بإيحاءاتها الثرية، ما أمكن له أن يتدثر دون أن يفقد تلك الصلة.
ورغم أنها تنحدر من مناطق الموصل في شمال العراق، فإنّ الأغنية البغدادية التي ملأت أجواء الخمسينات والستينات، ارتبطت بها أكثر من غيرها من مطربات عاصرنها لكنهن انشغلن أحياناً بأطوار الريف العراقي الجنوبي، وألوان البادية الغربية، قبل أن تندمج خصائص الأغنية البغدادية بنكهة الأغنية الجنوبية، منذ السبعينات، بعد ظهور مجموعة من الملحنين والمطربين والشعراء، الذين أزاحوا الأغنية البغدادية من الصدارة لصالح شجن أكثر لوعة، لكنه أقل شفافية من شجن الأغنية البغدادية التقليدية.
وبالنسبة لجيلنا تبدو عفيفة اسكندر رائدة، تنتمي إلى فترة استثنائية من تاريخ الفن والأدب العراقيين، أنها تشع في المكان الذهبي تماماً، المكان الخصب للشعر العراقي والقصة والفنون التشكيلية ونجوم المسرح والغناء، فالمجتمع المدني العراقي بدأت ملامحه تتشكل للتو، وجاء ظهور التجمعات الثقافية: جماعة بغداد للفن التشكيلي، والفرق المسرحية الأهلية كفرقة الزبانية، مترافقاً مع ثورة الشعر الحديث، وحركة الرواد، ومع التجديد في القصة العراقية بروادها كذلك؛ إنها تنتمي إذن لجيل السياب والبياتي، وجواد سليم وفائق حسن في الفن التشكيلي، وهيثم حقي وإبراهيم جلال في المسرح، وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي في السرد. والانتماء هنا ليس بالمعاصرة الزمنية وإن كانت لا تزيد سناً عن بعضهم إلا قليلاً ولا تقل عن البعض الآخر إلا قليلاً أيضاً، لكنه انتماء يتجسد في تلازم اللحظة تلازماً يجعل من المشهد بهذه الكثافة التي يبدو من الصعب تكرارها ثانية في نسيج شرائح المجتمع العراقي ونخبه، حيث لم تكن المسافة واضحة بين الملهى والمقهى، والصالة والصالون، فكلها كانت منتدى للحوار والحياة معاً.
فقد كانت ملاهي بغداد، في النصف الأول من القرن الماضي، هي مسرح المدينة، الذي لم ترفع ستارته الأولى لتسفر عن مشهد تمثيلي، بل عن أغنية، ولم تكن ليالي الأنس مجرد ليل وخمر ونساء، ولم يكن روادها من محدثي النعم تلك الطبقة التي عادة ما يتكون ثراؤها الفاحش والسريع على حساب تردي القيم في الظروف النافرة، أو تلك الطبقة التي لبست قفازات سوداء لتنتقي حصتها من الغنائم، فثمة شخصيات اجتماعية وثقافية لم تكن ترى في الملهى إلا واحداً من أمكنة المتع الروحية الضرورية، تستمع فيه لقصائد مغناة من شعر أبي نواس وابن المعتز وحتى المتنبي، وكثيراً ما كانت عفيفة وسواها من المغنيات يقمن حفلاتهن في الملاهي والحدائق التي تحيط بالقصور الملكية المجاورة، مسرحاً في الهواء الطلق من أجل هواء أكثر.
ولعل الشاعر حسين مردان، أشهر من التصق اسمه باسمها، فقد كان يصحب العديد من زملائه الشعراء، إلى الملاهي التي تغني فيها عفيفة اسكندر، ليستمتعوا بصوت "عفاوي" كما دأب على تسميتها، وتتكفل المغنية بمعضلة الحساب المفتوح للشاعر وضيوفه. ويؤكد الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي الذي كان يصحب حسين مردان لبعض تلك الحفلات، ان ما ظهر من صوت عفيفة وصورتها، أخفى جانباً مهماً من عمق تلك الشخصية. وكغيره من الشعراء والنخبة البغدادية كان يزورها في منزلها أيضاً مع الشاعر المتمرد حسين مردان، بأطواره الغريبة، وعلاقته مع "عفاوي" التي يحسد عليها من قبل زملائه الشعراء، رغم جانب الصداقة الطاغي عليها، وهو يتحدث عن مكتبتها الكبيرة، عن كتابات لها، تفصح عن الجانب الغائب في شخصيتها، وعن ذائقة لافتة في حفظ الشعر قديمه وحديثه.
لم يكن حسين مردان هو الشاعر الوحيد، الذي أحب "عفاوي" أو تقرب منها بصيغة الصديق، بل هناك "كمال نصرت" وهو صحافي رائد وشاعر هامشي من الشخصيات البغدادية المعروفة في الأربعينات والخمسينات، إذ كتب فيها أشعاراً غزلية بعد أن تحول وحيه الشعري عن سماء المطربة زكية جورج التي أفل نجمها، ليتجه إلى سماء أخرى لمع فيها وجه عفيفة.
وأتذكر هنا أيضاً أن الشاعر البغدادي الرومانسي (المرحوم شفيق القيمقجي) كان يفخر في أحاديثه بمقهى حسن عجمي، بشيئين اثنين: أشعاره التي كانت تذاع من دار الإذاعة العراقية حين يقرأها بحضور الملك فيصل الثاني، لكونه كان ضابطاً في الجيش الملكي، وبإعجاب عفيفة اسكندر بقصائده الرومانسية، حتى إنه كان يحتفظ بصورة فريدة ونادرة لها، يقدمها لكل من يريد أن يطلعه عليها من الخاصة، بمقدمة معتادة: "سأريك جسداً عبقرياً"؛ وليس الجسد في الصورة إلا جسد عفيفة، فيما كان الشاعر الرومانسي كمن يحمل جسدها ساخناً في محفظته رغم ان الصورة تعود إلى أواسط الأربعينات.
ليس الشاعر المتمرد، ولا الصحافي الرائد، أو الضابط الملكي، هم العينة الوحيدة من الرجال الذين أحرقتهم نار عفيفة، فشيخ القبيلة ينضم إليهم في قافلة الوجد. ثمة قصص عن الشيخ الذي ضحّى بمجده بين قومه وقطعان إبله وتخوم مقاطعاته المترامية، ليضيء ليله بالنار التي تتصاعد ألسنتها من عبارات عفيفة، وخفتها التي لا تخفت.
ولعل مثل هذه التجارب ستعكس جانباً من خصائص الفن الذي قدمته طيلة أكثر من نصف قرن.

الدون جوان أنثى
تتحرك عفيفة اسكندر في أغانيها المصور أغلبها بالأسود والأبيض، أمام الكاميرا، بغير ما يقتضيه الوقوف أمام ميكروفون، لا يسمح بمزيد من الحركة، إنها مشاغبة، أو بالأحرى هي رائدة الشغب في استدراج الموسيقى لصوتها وحركات جسدها وإشارات يديها، وتعابير وجهها، كأنها تمتلك طاقة تريد أن تسرِّع بها كل شيء حولها من مكانها المحدود ذاك.
تطلق غمزة يسارية من عينها، التي ذاب فيها السهر لفرط حنينها "للحلو" كأنها تلتقط صورة لجمع متباين من الرجال الذين يتطوح كل منهم ويتأوه وكأنه المنادى الوحيد الذي تمط شفاهها ببطء وهي تناديه "يا حلو".
تضرب قبضة كفها اليمنى على كفها اليسرى المفتوحة، وتفركها بغنج عل الكف المبسوطة، كمهراس الهاوون الذي تتفتت تحته أشياء كثيرة، وهي تغيظ الحبيب "على عنادك لحبهم وأحرك أفـَّادك"، "أي أحرق فؤادك"، أو تذكر ما تركته في قلب المحب من "فلفل وبهار" وتوابل أخرى حارقة، قبل أن يؤول السوق إلى زمن الفواكه.
والواقع أن الحرائق من شتى الأنواع هي صورة عامة في غناء الخمسينات، لكنها في غناء عفيفة تمتاز بكونها تقدم صورة مستحدثة للمرأة اللامبالية أمام تزاحم العشاق، والمغناج حيال تكأكئهم، وليس صورة المرأة المحترقة بنيران الهجر والحب، والمترمدة بفعل تلك النيران. إنها تشعل الحرائق في القلوب وتتغني أمام لهبها منتصرة. صورة خارج الإطار النمطي لشخصية المرأة، العراقية على الأقل، خلال تلك الفترة، فأغنيات مثل "جوز منهم لا تعاشرهم" و"على عنادك لأحبهم واحرك أفادك" و"حركت الروح لمن فاركتهم" وسواها تخاطب جمعاً لا مفرداً، إنها المرأة التي لا تتوسل المحب، لكنها تتدلل على المحبين، وتتبغدد إزاءهم، تماماً كصورة المرأة عند السياب مثلا، وهي تقلب الرومانسية الذكورية رأساً على عقب، وتقدم صورة "الدون جوان" مقلوبة بمشاعر تتلاءم مع نبالة الأنثى تساعدها إطلالتها المرحة التي تقترب من المونولوجست وشخصيتها التي توحي بالقوة وعلو الأنف والكعب أيضاً.
فيما يفصح صوتها عن صرخة تتشقق بالعبارة، ليس تلك التي تنطوي على استغاثة، بل هي صرخة توقظ في الآخر شعوراً وعوالم معتقة ونائمة.
ولربما لم يسمع كثير من العراقيين قصيدة "يا عاقد الحاجبين" لبشارة الخوري، من فيروز كما سمعوها من عفيفة اسكندر، وربما بعدها، الأولية هنا غير ذات أهمية، صحيح أن تلك القصيدة لدى المغنية البغدادية تحولت إلى ما يشبه الطقطوقة، لكن الصحيح أيضاً أن البغاددة عندما يسمعون جملة "قتلتني مرتين" في الأغنية بلحن مختلف عن لحن الرحابنة الذائع عربياً، فهم يسمعونها بصرخة وانتفاضة من "عفاوي" لا بهمس ونبرة انسيابية وشفيفة في صوت السيدة فيروز.
وجرياً على طريقة أفلام أيام زمان، اشتركت الفنانة عفيفة اسكندر في فيلمين سينمائيين في نهاية الأربعينات، كان الأول صناعة مشتركة بإخراج مصري، ومشاركة في البطولة للفنان اللبناني محمد سلمان الذي نجح في تجربة سابقة في فيلم مماثل مع المطربة صباح. وإذا كان ثمة "صبوحة" في الفيلم الأول، ففي الفيلم الجديد ثمة "عفاوي" تدليع بنكهة أخرى من شاعر عراقي متمرد.
غير أن فيلم "ليلى في العراق" لم ينل نجاحاً يذكر، يعزز رصيد عفيفة اسكندر، لكنه عزز مسيرة السينما في العراق بتجربة في زمن يحتاجها. أما فيلمها الثاني "القاهرة بغداد"، الذي أخرجه المصري أحمد بدرخان، فهو آخر عهد لها مع السينما.
علاقتها المتميزة مع أهل الأدب ليست سوى انعكاس طبيعي لعلاقتها بالأدب نفسه، فهي مغنية تكاد تنتمي لمغنيات العصر العباسي، في ما يتعلق بالثقافة الأدبية، رغم السمة العصرية التي طبعت تجربتها وسلوكها بطابع خاص، والبيئة التي حققت صلة نموذجية معها؛ فغنت قصائد رقيقة بدت متناسبة مع تجربتها ودللت على عمق اختياراتها من حيث اهتمامها بالجملة والمفردة، فغنت لظرفاء بغداد كالعباس بن الأحنف في "أيا من وجهه قمر" وللعشاق الأندلسيين، كالخطيب الأندلسي الأعمى في "قيل لي قد تبدلا".
والغريب أن لجنة فحص النصوص في الإذاعة وهي لجنة قوامها "شعراء قادسية صدام" منعت "في ما يشبه رسالة تحذيرية سبقت اعتزالها" بث بعض أغانيها من الإذاعة العراقية لأنها تحتوي على "كلام ركيك ومائع لا يتناسب مع المرحلة" وبينها قصيدة الخطيب الأندلسي، ونشرت قرار المنع في الصحافة إلى جانب عدد كبير من الأغنيات "غير الصالحة" جرى منع بثها.
احتجاب عفيفة اسكندر لربع قرن، لا يقرأه الواقع اليوم، إلا بوصفه معادلاً نموذجياً لانحسار الصوت النسائي من الأغنية العراقية؛ فخلال ربع القرن الأخير لم يترشح صوت نسائي صريح، بينما بقيت أصداء الأجيال القديمة من المغنيات هي الحاضرة في صحراء الصوت الجديد. فعفيفة في الواقع هي الصلة الصوتية والزمنية بين أهم جيلين من مغنيات بغداد، خلال القرن الماضي، صلة بين سليمة مراد ومنيرة الهوزوز وزكية جورج وصديقة الملاية من جهة، ومائدة نزهت وزهور حسين ووحيدة خليل ولميعة توفيق من جهة مقابلة، انتهى الجيل الأول بالرحيل، بينما غيب الموت والصمت الجيل التالي، وعندما يجري استذكار عفيفة في هذه الأيام، فإن ثمة رومانسية يفرضها واقع العراق الحالي، تتجسد في الرغبة باستحضار زمن لم يعد متاحاً منه إلا الصمت والذهول إزاء ما يملأ العراق حالياً من أصوات أخرى، ليس الغناء أحدها بالتأكيد، بل أصوات الانفجارات والعويل ولطم الخدود.
تعود عفيفة اسكندر للظهور مرة أخرى من بين كل هذه السنوات والذكريات المديدة، من عهد الصوت والصورة بالأسود والأبيض، في زمن تكاثرت فيه الفضائيات العراقية في الآونة الأخيرة، وتكاثر معها صخب الجديد، وفاكهته الموسمية وغير الموسمية، لكنها ظهور سيبدو ممزوجاً بالرعب مما يحدث على الأغلب. إنها صورة العراق الغائبة والمطمورة تحت ركام القمع والحصار والحروب، تنهض اليوم مجدداً لكنها لا تكاد تصدق، إنه العراق مرة أخرى!
لكن أجمل ما في هذا الظهور إن عفيفة اسكندر عادت بعد ربع قرن من الاحتجاب وهي تحمل معنى أن ينطبق الاسم على المسمّى.