فارس خشّان ـ المستقبل:ما انتهى إليه العام 2004 من توقيفات طاولت كوادر في "الحزب التقدمي الاشتراكي"، سيفتح العام 2005 على صراع سياسي عنيف بين سلطة تستعمل الأسلحة غير المشروعة لتأبيد المعادلات الوطنية المشكو منها وبين معارضة تتوسل حقوقها الدستورية لانجاز تغيير ينقل البلاد من وضعية ميؤوس منها إلى آفاق المستقبل حيث تتزاوج الرفاهية مع الحرية والاستقرار والديموقراطية.
ولا يستطيع القيّمون على القرار في لبنان الادعاء ان ما حصل فيه من تداعيات، منذ تمديد ولاية رئيس الجمهورية اميل لحود فاجأهم أو هو نتاج رهان هذه المجموعة أو تلك على القرار الدولي الرقم 1559، على اعتبار انهم كانوا في صورة الانعكاسات السلبية على الواقع السياسي الداخلي في حال أصرّوا على السير بقرار التمديد، على الرغم من إثبات غالبية اللبنانيين معارضتهم لهذا المنحى.
وفي حزيران 2004، صدرت تحذيرات إلى الممسكين بالقرار اللبناني في ان بقاء الرئيس لحود في منصبه سيؤثر سلباً على ما تبقى من الديموقراطية في لبنان، إلا ان هؤلاء الممسكين بالقرار غضوا النظر عن هذه التحذيرات وأخذوا البلاد في الثالث من أيلول إلى حيث كان يجب ألا يأخذوها.
في ذاك التوقيت الزمني الذي سبق التمديد بثلاثة أشهر، أبلغت مرجعيات لبنانية معروفة بدقة قراءتها للواقع اللبناني أصحاب القرار في مفاصل الشأن الداخلي، وبصراحة الآتي:
أولاً: إن تمديد ولاية لحود سيطيح ما تبقى من جوهر لبنان كجمهورية ديموقراطية برلمانية.
لكن مؤيدي استمرار لحود ردوا على هذا الطرح بالسؤالين الآتيين:
1 ـ كيف يمكن التوفيق بين الخوف على الديموقراطية من التمديد في العام 2004 والسير بهذا الخيار الدستوري ـ السياسي في العام 1995 مما سمح ببقاء الرئيس الياس الهراوي في سدة الرئاسة حتى تشرين الثاني 1998؟
2 ـ هل أدى التمديد آنذاك، بصفته خياراً استثنائياً، إلى تعطيل الديموقراطية اللبنانية، في وقت شهدت البلاد استحقاقين ديموقراطيين أثناء الولاية المحددة، كانت الانتخابات البلدية والاختيارية في ربيع العام 1998 أولهما وكانت الانتخابات الرئاسية في خريف العام 1998 ثانيهما؟
ثانياً: ردّ الخائفون على الديموقراطية اللبنانية من قرار التمديد بأجوبة وافية عن هذين السؤالين المحوريين.
وقالت هذه الشخصيات ان من سار بخيار التمديد في العام 1995 أدرك الكلفة التي تكبدتها البلاد من جراء ترجمة رغبتهم باستمرار الهراوي في منصبه الدستوري لثلاث سنوات إضافية، إلى واقع عملي.
وفي اعتقاد هذه الشخصيات ان الكلفة المالية على الخزينة العامة على أهميتها آنذاك، بقيت أهون الشرور التي نبتت على جذع التمديد، لأن الخطر الذي تعرّض له النظام اللبناني كان الأدهى.
وأفادت ان التمديد للهراوي بعد ان تزامن مع التمديد لقائد الجيش العماد اميل لحود في موقعه العسكري، جعل الدولة اللبنانية دولتين بكل ما للكلمة من معنى، بحيث أصبح القرار السياسي في واد والقرار الأمني في واد آخر، فكان السياسيون يعملون لانجاح تجربتهم فيما العسكر يجهدون للوصول إلى السلطة من خلال قائد الجيش.
وقالت هذه الشخصيات ان هذا الانقسام بين السياسي والعسكري ببعده المخابراتي لم يأتِ على سمعة كل الطبقة السياسية فحسب، إنما مدّ نموذجيته الخطرة إلى كل المؤسسات في الدولة، بحيث وجد القضاء نفسه وسط شاقوفين جاذبين، أما النقابات فانقسمت وتناثر الاتحاد العمالي العام بين الياس أبو رزق المحمي من الأجهزة آنذاك وغنيم الزغبي المحاط بالسياسيين وترك سياسيون أساسيون في البلاد طبقتهم الطبيعية وانخرطوا في الطبقة الأخرى على خلفية خصوماتهم الصغيرة مع الرئيسين الياس الهراوي ورفيق الحريري، قبل أن يعودوا إلى قواعدهم ولكن بعدما لمسوا بالتجربة مدى الخطأ الذي ارتكبوه، كما هي عليه حال الرئيس نبيه بري والوزير سليمان فرنجية.
وأشارت هذه الشخصيات الى انه وسط هذه الصورة لنظام منقسم بين أصحاب القرار والعاملين على الانقلاب عليهم، وصل قائد الجيش إلى رئاسة الجمهورية بقرار سوري نقله الهراوي إلى لحود بعد قمة عقدها في دمشق مع الرئيس الراحل حافظ الأسد، وبتسويق لبناني لم يبتعد عنه إلا النائب وليد جنبلاط والعماد ميشال عون آنذاك.
إلا ان الرعاية السورية للجمهورية برئاسة لحود لم تنجح في توحيد البلاد تحت قيادة سياسية جديدة، بل استمر الانقسام بشكل حاد حيناً وبشكل هادئ حيناً آخر، مما كبّد البلاد أثماناً باهظة وفوّت عليها فرصاً نادرة ليس أقلها القدرة على استثمار نجاح مؤتمر باريس ـ 2.
ثالثاً: أكدت هذه الشخصيات لأصحاب القرار انه وبالاستناد إلى هذه القراءة فإن التمديد للهراوي، وبغض النظر عن الرؤية الدستورية التي تربط مناعة الديموقراطية، باحترام أحكام المادة 49 من الدستور اللبناني، كانت له أثمان باهظة يستحيل أن تتحمّلها البلاد في الفترة المقبلة بعدما اشتعلت كل أجراس الانذار دفعة واحدة بحسب اعتراف جميع العارفين.
ولفتت الشخصيات نفسها في حواراتها مع أصحاب القرار إلى ان الخوف من التأثيرات السلبية للتمديد على طبيعة النظام اللبناني لا تقارن مطلقاً بين إبقاء الهراوي في منصبه وبين تمديد ولاية رئيس بمواصفات اميل لحود.
ذلك ان الهراوي، وبغض النظر عن الحكم معه أو عليه، كان ابن الطبقة التي مددت له وانتهج خطاباً يحفظ موقعية هذه الطبقة في النظام اللبناني وارتضى في تجربة انتخابات العام 1992 خسارة ابنه روي للموقع النيابي وفي الصراع البلدي في العام 1998 بهزيمة اللائحة المدعومة منه في زحلة، وخاض علناً غمار التحدّي مع معارضيه السياسيين، وعندما اتخذ القرار بتمديد ولايته وقفت إلى جانبه فوراً وطوعاً مكونات أساسية في البلاد عادت فاستكملت بمن كان ينتظر القرار السوري.
أما وضعية لحود فتختلف جذرياً عن وضعية الهراوي، فلحود الذي انتخبه النواب بغالبية 118 صوتاً وتغيب عشرة عن الجلسة الرئاسية حمل، منذ اليوم الأول لتوليه السلطة، على الطبقة السياسية وعمل بجد ونشاط على تغييرها ولما فشل مشروعه في الانتخابات النيابية في العام 2000 اتخذ موقفاً سلبياً من المجلس النيابي الذي وصلت إليه كتلة مؤيدة له، من ضمنها ابنه النائب اميل اميل لحود، وعندما وجد ان الغالبية المقررة في مجلسي النواب والوزراء تقف ضد المشاريع التي يطرحها ربط موقعه الدستوري السامي بهذه المشاريع، بحيث بدا الوقوف ضدها وقوفاً ضده وإسقاطها إسقاطاً له، وبذلك تحوّل النقاش عن مجراه الطبيعي والموضوعي وأصبح الاعتراض على توجه قانوني أو تشريعي أو مؤسساتي أو مالي أو أمني بمثابة المسّ بهيبة رئاسة الجمهورية، ومن خلالها بهيبة الكلمة السورية في لبنان.
رابعاً: قالت هذه الشخصيات ان الأخطر على النظام الديموقراطي من كل ذلك يتجلّى تحديداً في ان سعي فريق رئيس الجمهورية إلى التمديد يتزامن مع مواصلة لحود لنهجه السياسي الأول، بحيث يجد النواب ان المطلوب منهم التصويت لمصلحة لبقائه في منصبه يتوعدهم، ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً بإسقاطهم من مواقعهم لأن التغيير يستحيل أن ينطلق إلا بتغيير هذه الطبقة السياسية.
وعلى هذه القاعدة، فالخلاف السياسي العميق على إدارة الشأن الداخلي يعمم نفسه على غالبية الثلثين في المجلس النيابي، وهي الغالبية المنوط بها تعديل الدستور ليتمكن رئيس الجمهورية من البقاء في سدة الرئاسة.
ولأن المسألة كذلك، فإن اتخاذ القرار بالتمديد للرئيس لحود يعني الآتي، وفق ما أبلغته الشخصيات اللبنانية الى أصحاب القرار:
أولاً: اضطرار مجلس النواب اللبناني للسير بمشروع معروف ان غالبيته ترفضه أو على الأقل ثلثه المعطل يحاربه.
ثانياً: إطلاق العنان للصراعات السياسية الحادة التي ستكتسب مشروعيتها من حرب إلغاء تتصادم مع غريزة البقاء.
ثالثاً: التنازل عملياً عن الاصلاحات الدستورية التي أدخلتها على الدستور "وثيقة الوفاق الوطني"، طالما ان النهج المعتمد يقوم على معادلة المزج بين المشروع وهيبة الرئاسة الأولى، كامتداد ممتزج مع هيبة القرار السوري في لبنان.
رابعاً: ابتعاد أقوياء النظام عن السلطة التنفيذية وانخراطهم في المعارضة، لعدم ثقتهم بأن عودتهم إلى السلطة ستؤمن لهم ما يرجونه من نجاحات ولتأكدهم من ان المشاركة في الحكم سيكدّس خسائرهم.
إلا ان كل هذه التحذيرات التي حاولت ان تُبعد أصحاب القرار عن إجبار اللبنانيين على شرب كأس في غاية المرارة ذهبت أدراج الرياح، ودخلت البلاد في أتون من الصراع المحموم بين مجموعة قوى تريد إنقاذ النظام الديموقراطي من ضربة مؤلمة وجهت إليه وبين مجموعة قوى تريد دفع اللبنانيين بالترهيب، بعدما رفضوا ذلك الترغيب، إلى التضحية بمقومات الوطن على مذبح معركة اقليمية محكومة بخسارة حتمية.
انها أخطر معادلة تتحكم بالحياة السياسية في الأشهر الأولى في العام 2005.