كتب - خالد شيا:لم تفرض تجارة اللؤلؤ على أصحابها مخاطرات من قاموس الأساطير كالتي عاشها الصيادون الذين طالما رقدت أرواحهم في قاع الخليج بحثاً عن لؤلؤة وحلم، لكن الحفاظ على تلك الكنوز وحمايتها كأرشيف للزمن، احتاجا الى أنامل أخرى تتقن الدخول الى عالم ساحر مستكشفة أبعاده التاريخية والانسانية وربما الأسطورية بريشة فنان وقلب شاعر.

وقبل ان يرحل سلطان العويس عن الدنيا اكتمل حلمه القديم باقتناء احدى أكبر مجموعات اللؤلؤ في العالم وأهداها لشعب الامارات على ان تبقى أمانة لدى بنك دبي الوطني الذي تأسس قبل اربعين عاماً، ويفخر باحتوائه على متحف اللؤلؤ الطبيعي الذي بذلت لانشائه جهود كبيرة على امتداد عامين من الزمن.

يعتبر المتحف تكريماً للمرحومين علي العويس وابنه سلطان العويس، فالأب الذي كان تاجر لؤلؤ هو من بدأ جمع تلك المجموعة الضخمة، لكنه لم يعش حتى يرى حلمه تحقق، لكن سلطان العويس تمكن من تحويل الحلم الى حقيقة نلمسها حتماً عندما نرى المجموعة التي لا تقدر بثمن في مقر البنك بإطلالته الرائعة على خور دبي حيث نشاهد البحر والمراكب الراسية مما يعمق جمال الحكاية وصدقها.

في المتحف أشكال مختلفة من اللؤلؤ تتراوح بين حبيبات صغيرة دائرية الى أشكال دائرية، ومن الأبيض الفضي الى الزهري الشاحب والذهبي، كما نشاهد الأطقم الرائعة من قلائد وأساور وخواتم تحوي مئات من لآلىء متدرجة الأحجام، وقد نظمت مع الألماس والذهب، ومجموعة سلطان العويس ضخمة الي درجة أنه يمكن للمرء ان يشاهد فيها أندر اللآلىء.

يخلد المتحف صفحات غنية من حياة اختفت الى الأبد، ويوثق في جنباته حكاية تاريخ نابض بالحرارة الانسانية، فهو يحفظ كل ما ارتبط بتلك الأيام من ملابس الغوص وأدوات الطعام، وأشكال المراكب، ويذكر التاريخ ان هناك 1200 من مراكب الغوص كانت موجودة في المنطقة خلال القرن الثامن عشر حصة دبي منها 335 مركباً تعمل في مغاصات الأصداف خلال الموسم، ومع ازدهار تجارة اللؤلؤ أخذت دبي تنمو بعد ان كانت مجرد قرية صيد، وما ان حل مطلع القرن العشرين حتى اصبحت ميناء مزدهراً، وكانت التقاليد البحرية العربية تنتقل من جيل الى آخر، وكثيراً ما كانت تنظم في قصائد شعرية تساعد البحارة على حفظ البيانات الخاصة بالفلك والطرق البحرية وتيارات الماء والرياح. وكان كل عمل يقوم به البحارة على المراكب مصحوباً بالغناء والتصفيق والرقص، وكأن تلك المراكب أبحرت يوماً ما على الغناء وايقاع الأقدام الراقصة وليس على موج البحر والموت الكامن في ثنايا الريح أو قاع الخليج.

وكان لتجار اللؤلؤ لغتهم الخاصة وتتمثل في حركات الاصابع المغطاة بقطعة قماش، وكانت وسيلة الاتصال هذه تستخدم بين التجار للمساومة وترجمة لكل طقوس البيع والشراء. ووثق المتحف كل ذلك، اضافة الى معدات فرز اللآلىء كالغرابيل والأوزان والعدسات المكبرة لفحص بريق وجودة سطح اللؤلؤة.

وصل تجار اللؤلؤ في رحلاتهم الى كل الجهات وصولاً الى بومباي ونيويورك وتعاملوا مع كل الجنسيات والدول فكان طبيعياً ان يضم المتحف مجموعة من العملات الورقية والمعدنية التي تعود الى عصور مختلفة، فهناك عملات عثمانية ويونانية واخرى تعود الى حقبة التجارة مع البندقية، كما نجد عملات الهند البريطانية.

كان مقدراً لذلك النمط من الحياة الذي اعتمد على صيد وتجارة اللؤلؤ الزوال، وشهد عام 1921 ولادة اللؤلؤ الصناعي في اليابان وانتشاره في العالم تزامناً مع الكساد الاقتصادي في أوروبا وعشية اكتشاف النفط في الخليج، فتحول كل شيء الى تراث وأخذت تقاليد الصيد وأدواته طريقها الى المتحف.

وجاء عمل سلطان العويس انسجاماً مع مقولة “لا ينتسب المرء لأرض لا موتى له تحت ترابها”، فلا يمكن لنا أن نخطو الى المستقبل من دون ان ندرك حقيقة ذلك الإرث والتاريخ. وكي نؤكد انتسابنا لها علينا ابراز تاريخها وهويتها والحفاظ على موروثها الثقافي والحضاري، فاللؤلؤ ليس مجرد كنز أو وسيلة عيش عابرة بل إنه صفحات من حياة لأجيال عاشت وماتت هنا، وكان لها فضل التأسيس وتشكيل الملامح، أجيال تنقلت بين الواقع والحلم، بين قسوة الحياة وملوحة البحر ونافذة الأمل، فأصبحت حياتها أسطورة تماماً مثل اللآلىء التي قيل عنها في حكاية قديمة، إنها تشكلت من حباب المطر وضوء القمر.