روما‏ من مصطفى محمود عبدالله: لم يهنأ سيلفيو بيرلسكوني بحكم براءته من تهمة الرشوة والفساد الذي أصدرته محكمة جنايات مدينة ميلانو‏,‏ حتي جاءه في صباح اليوم التالي خبر إدانة صديقه مارشيللو ديللوتري عضو مجلس الشيوخ ومؤسس حزب رئيس الوزراء فورسا إيطاليا بالسجن‏9‏ سنوات بتهمة تعاونه مع عصابات المافيا الإجرامية الذي أصدرته محكمة جنايات مدينة باليرمو‏,‏ بعد مداولات ومشاورات بين أعضاء هيئة المحكمة استمرت‏13‏ يوما‏.‏
أما الحكم ببراءة بيرلسكوني‏,‏ فقد جاء بعد مداولات استمرت أكثر من‏14‏ ساعة في القضية المنظورة أمام المحكمة منذ‏4‏ سنوات والمعروفة باسم شركة إس‏.‏ إم‏.‏ إيه للصناعات الغذائية والمتهم فيها بيرلسكوني بالفساد وتقديم رشاوي لقضاة محكمة روما تقدر بنحو‏434‏ ألف دولار بواسطة شيزاري بريفيتي عضو مجلس الشيوخ ووزير الدفاع الأسبق ومحامي بيرلسكوني في قضايا الأيدي النظيفة من أجل تفضيل مجموعة شركات رئيس الوزراء في عملية خصخصة وبيع الشركة المذكورة التي تعود أحداثها إلي عام‏1985,‏ وقد تمت إدانة بريفيتي في القضية نفسها بالسجن‏11‏ سنة‏.‏
وكان المدعي العام السيدة ايلدا بوكاسيني قد طالبت في مذكرة الاتهام بإدانة بيرلسكوني بالسجن‏8‏ سنوات بتهمة الإفساد في أوراق قضائية‏,‏ بينما تحدث محامو رئيس الوزراء عن محاكمة سياسية وحذروا من أن الحكم يمكن أن يغير تاريخ إيطاليا‏,‏ وطالبوا بالبراءة لانتفاء وقوع الفعل‏.‏
ومن جانبه‏,‏ كان بيرلسكوني قد أكد من قبل براءته أنه ينتظر الحكم بهدوء مطلق‏,‏ وأعلن قائلا‏:‏ إنني أنتظر أن أكافأ بميدالية في هذه القضية ولا أعتقد أنه يمكن أن يصدر حكم بالإدانة أو أن الحكم سيغير الموقف السياسي الحالي في إيطاليا‏,‏ واستبعد أن يكون هناك قرار يتعارض مع واقع الأشياء الذي يعرفه الجميع وبعد البراءة علق بيرلسكوني بأنه كان ينتظر الحكم منذ‏10‏ سنوات‏,‏ ووصفه بأنه يعتبر نهاية للهجوم المتواصل عليه منذ عشر سنوات متهما العدالة الإيطالية بأنها تعاني الأمراض الخطيرة في حين وصفت الأحزاب اليسارية المعارضة الحكم بأنه براءة مشروطة‏,‏ حيث سقطت الاتهامات الرئيسية في القضية بالتقادم‏,‏ وطالبت أحزاب الأغلبية باحترام الأحكام القضائية سواء كانت بالبراءة أو الإدانة‏.‏
لقد اختارت محكمة جنايات ميلانو حلا وسطا لتنهي المعركة بدون منتصرين أو مهزومين بعد أن قامت بالرد علي الاتهامات الأربعة الموجهة إلي بيرلسكوني كالتالي‏:‏
الاتهام الأول‏:‏ هل دفع بيرلسكوني في‏6‏ مارس من عام‏1991‏ مبلغ‏434‏ ألف دولار للقاضي ريناتو سكويلانتي عن طريق وساطة شيزاري بريفيتي؟
نعم ـ يقول القضاة ـ بيرلسكوني دفع هذا المبلغ للقاضي سكويلانتي واعتبرنا هذا الفعل نوعا من الفساد‏,‏ ولكن إذا أخذنا في الاعتبار أن المتهم شخص دون سوابق وعاش بعد ذلك حياة دون مشكلات‏,‏ فهو يستحق الإجراءات المخففة وهي إجراءات تسمح بتقصير وقت السقوط بالتقادم والنتيجة أن الفساد قد وقع إلا أن الجريمة قد سقطت بالتقادم‏,‏ ومن ثم فالوقت متأخر لمعاقبة المتهم‏.‏
الاتهام الثاني‏:‏ هل كان بيرلسكوني متواطئا مع رجل الأعمال بيترو برامبيلا الذي قام في عام‏1988‏ بإعطاء مبلغ مليار ليرة‏(‏ نصف مليون يورو‏)‏ للقاضي اتيليو فاتشيفيكو الذي كلف بتقسيمه بين شيزاري بريفيتي وسكويلانتي؟ يقول القضاة إنهم لا يستطيعون الرد‏,‏ فالأدلة متضاربة ولا يمكن تأكيد أن بيرلسكوني كان متواطئا‏,‏ علي اعتبار أن المبلغ تم دفعه‏,‏ ولكن ليست هناك أدلة كافية لنؤكد أن المتهم كان علي علم ومسئولية بما حدث‏.‏
الاتهام الثالث‏:‏ هل حاول بيرلسكوني مع بريفيتي وباتشيفيكو إقناع سكويلانتي بالقيام بتصرفات تتعارض مع واجباته مثل العمل لمصلحة مؤسسة فيننفست التي يملكها رئيس الوزراء؟ لم يذكر الحكم أن بيرلسكوني لم يرتكب هذا الجرم‏,‏ وفي هذه الحالة أيضا‏,‏ فالفساد قد وقع ولكن براءة بيرلسكوني تامة‏,‏ حيث قام بتلك المناورات المتهمان الآخران فقط‏,‏ واللذان تمت إدانتهما من قبل‏.‏
الاتهام الرابع‏:‏ هل قام بيرلسكوني بإفساد القاضي فيليبو فيردي لمحاباته في النزاع بين مؤسسة الصناعات الغذائية ومؤسسة بويتوني لشراء حصة أسهم مؤسسة‏(‏ إس‏.‏ إم‏.‏ آية‏)‏ للصناعات الغذائية؟ يقول القضاة‏:‏ ليست هناك أدلة كافية علي أن الفساد قد حدث‏.‏

*قضية المافيا
تعود قضية السيناتور مارشيللو ديللوتري إلي عام‏1996‏ عندما بدأت نيابة باليرمو في التحقيق معه وقامت بإحالته للمحاكمة بعد عام ووجهت إليه تهمة التعاون مع عصابات المافيا والوساطة للقيام بأعمال يحظرها القانون لمصلحة مؤسسة فيننفست التي يملكها بيرلسكوني وهو ما أكدته شهادة بعض زعماء المافيا الذين أقروا مصاحبة المتهم في عدة لقاءات مع بيرلسكوني في فيلته بمدينة ميلانو‏,‏ وهو ما أكده أنطونيو انجرويا المدعي العام حين علق علي حكم الإدانة بأن قضاة المحكمة قد أيقنوا صحة أدلة الاتهام ووصف الحكم بأنه رد علي كل الإهانات التي وجهت إلي القضاة طوال فترة نظر القضية التي استمرت‏7‏ سنوات‏.‏ وأضاف أن الحكم يبرهن علي أن الأقوياء أيضا يمكن محاكمتهم وإدانتهم ويجب ألا نسعد مطلقا بحكم إدانة المتهم وعندما يدان أحد رجال المؤسسات بالتواطؤ مع المافيا فهذا ليس يوما سعيدا‏.‏
وقد علق بيرلسكوني علي الحكم بتأكيده لمعاونيه المقربين أن ديللوتري بريء‏,‏ وأنه شخصيا علي استعداد للقسم علي هذا‏.‏ وأضاف أنه يعرفه منذ‏30‏ عاما والمحاكمة أقيمت علي أساس ما سمعه البعض ليس علي أساس الأفعال‏,‏ بل علي أقوال التائبين عن المافيا وليس علي أدلة‏,‏ مؤكدا عدم ثقته في الاعترافات المفاجئة‏,‏ واصفا الإدانة بأنها إدانة سياسية‏,‏ وأن اليسار يستطيع الافتراء والتشويه من خلال الاستخدام السياسي للعدالة وسار علي نهجه زعماء أحزاب ائتلاف الأغلبية الحاكم الذين أعلنوا عن تضامنهم الكامل مع ديللوتري ووصفوا الحكم بإدانته بالخطأ الكبير من جانب القضاة الذين مزجوا بين العدالة والسياسة‏,‏ واعتبروا الحكم الصادر بحق عضو مجلس الشيوخ انتقاما من جانب قضاة مدينة باليرمو مقارنة بالبراءة الجزئية التي أقرها قضاة ميلانو لمصلحة بيرلسكوني‏,‏ كما أعلن ديللوتري بعد الحكم أنه سيستمر في عمله السياسي حتي يتم الحكم في الاستئناف‏,‏ وسيقوم بالواجب المهم الذي كلفه به بيرلسكوني‏,‏ وهو تنظيم الحملة الانتخابية لحزب فورسا إيطاليا استعدادا للانتخابات العامة التي ستقام في عام‏2006.‏

*الربط بين القضيتين
وهنالك ثمة ربط أو اتصال بين محاكمة بيرلسكوني ومحاكمة ديللوتري‏,‏ حيث إن نشاط الأخير في تعاونه المزمع مع عصابة المافيا قد جري في كل من جزيرة صقلية معقل المافيا ومدينة ميلانو مقر إقامة رئيس الوزراء لمصلحة مؤسسة فيننفست التي يملكها ويعد جزءا لا يتجزأ من تاريخ المؤسسة منذ نشأتها ومنذ بداية تضاعف أرباحها وعلي اعتبار أن القضية لا تتعلق فقط بمارشيللو ديللوتري‏,‏ ولكن من وجهة النظر الأخلاقية والسياسية فهي تتعلق مباشرة بسيلفيو بيرلسكوني أيضا‏,‏ فهناك علاقة وثيقة تجمع بين الاثنين مثل العلاقة التي تجمع بين بيرلسكوني وبين شيزاري بريفيتي‏,‏ بالإضافة إلي أن جريمة التواطؤ من الخارج مع عصابات المافيا قد وصفتها محكمة النقض في أبريل‏2003‏ بالإسهام الملموس والإرادي عن إدراك قوي ولا يهم إذا كان هذا الإسهام عرضيا أو دائما‏,‏ المهم أن يكون مؤثرا في تعزيز واستمرار نشاط عصابة المافيا‏.‏ ولقد كان ديللوتري الوسيط بين المافيا الصقلية وبين مجموعة شركات بيرلسكوني‏,‏ وقام بعمل المساعد والمساند للمافيا وتوسط وقام بحل الصراعات التي نشبت بين تطلعات جزيرة صقلية واستعداد ميلانو لتلبية هذه التطلعات‏,‏ بل إن دوره كصانع الحلول أتاح له أن يشغل مكانة حاسمة إلي يمين بيرلسكوني ولا يمكن أن نفهم دور ديللوتري إذا لم نصل إلي العلاقة بين ضغوط المافيا علي بيرلسكوني والوساطة واللقاءات التي نظمها ديللوتري‏.‏
وكان بيرلسكوني قد تعرض للتهديدات في سبعينيات القرن الماضي من خلال وضع قنبلة في شارع روفاني بمدينة ميلانو عام‏1975‏ ثم تكرر المشهد نفسه في عام‏1986‏ وفي التسعينيات جاء الدور علي سلسلة محلات استاندا التي يملكها رئيس الوزراء من خلال تعرض أحد فروعها بمدينة كاتانيا بجزيرة صقلية للحريق والسرقة أكثر من مرة وفي عام‏1993‏ يتعرض ماوريتسيو كوستانسو ـ المستشار التليفزيوني المقرب من بيرلسكوني‏,‏ والمعارض لنزوله إلي الساحة السياسية ـ لمحاولة اغتيال‏,‏ حيث كان من مصلحة المافيا أن يدخل سيلفيو الساحة السياسية دون معارضة‏..‏ ومن بعدها قام بيرلسكوني بتعيين فيتوريو مانجانو‏,‏ وهو أحد زعماء المافيا المعروفين بالعمل في فيلته بميلانو لتعزيز علاقة التعايش مع المافيا‏,‏ وبعد لقائه في العام نفسه مع بعض زعماء المافيا في كاتانيا وفي مقدمتهم نيتو سانتاباولا‏,‏ ومنذ ذلك اللقاء لم تحدث أي تفجيرات أو حرائق في محلات استاندا‏.‏
ويقول المدعي العام خلال المحاكمة إن ديللوتري قام بدور وساطة مهم مع المافيا الصقلية في عام‏1993(‏ أحداث موضوعية ومثبتة ليست بالكلام وإنما بشهود العيان وبالتنصت الهاتفي‏,‏ بل وبالوثائق والصور والأفلام‏),‏ وكان من الممكن أن تتضح تفاصيل أكثر لو لم يحتفظ بيرلسكوني‏(‏ ضحية تلك التهديدات وتلك الضغوط وذلك الترهيب‏)‏ بالحق في عدم الرد وعرض إسهاماته في التوصل إلي الحقيقة‏,‏ كما أعرب النائب العام أمام المحكمة عن أسفه قائلا‏:‏ كنا ننتظر أن يسهم رئيس الوزراء بيرلسكوني في التوصل إلي الحقيقة ولتوضيح بعض النقاط السوداء مثل تعيين مانجانو وابعاده بعد ذلك عن ميلانو وعن علاقاته مع ديللوتري وحول تحركات غير عادية للأموال في خزائن الشركة القابضة لمجموعة شركات فينفيست‏,‏ مؤكدا أن بيرلسكوني يعرف خطورة مساعده وأنه إذا أبلغ عنه سيكون بلاغا ضد نفسه وأنه اضطر لتقريبه منه‏,‏ وبوجوده إلي جواره أصبح محط اهتمام المافيا الصقلية‏.‏
وأضاف أن أي اعتراف ولو مبهما كان من شأنه أن يؤكد للمحكمة ذلك النوع من عقد التأمين الذي وقعه بيرلسكوني مع المافيا من خلال تعيينه وترفيعه لصديقه ديللوتري الذي تعرف علي بيرلسكوني في الجامعة ثم عمل في أحد البنوك وفي عام‏1974‏ يترك البنك ويعمل في شركة اديلنورد للمقاولات التي يمتلكها بيرلسكوني‏,‏ وبعد عامين يدخل ديللوتري في صفقات والمشاركة في شركة مع المافيا الصقلية وبعد إفلاس الشركة يتم التحري عنه بتهمة غسل الأموال‏,‏ وفي الفترة من‏75‏ إلي عام‏1983‏ يستطيع السكرتير ديللوتري أن يدخل في خزائن بيرلسكوني‏113‏ مليار ليرة‏(‏ أكثر من‏500‏ مليون يورو‏)‏ وفي العام نفسه‏(1983)‏ يؤسس بتكليف من بيرلسكوني شركة بوبليتاليا للدعاية والإعلان التي ضاعفت دخلها خلال سنوات قليلة إلي عشرة أضعاف‏.‏ وفي عام‏1993‏ وبتكليف من بيرلسكوني أيضا يؤسس ديللوتري حزب بيرلسكوني فورسا إيطاليا ويخصص له البائعين المهرة في مؤسسة بوبليتاليا للدعاية وينجح المشروع في عام‏1994‏ بصعود بيرلسكوني إلي السلطة‏.‏
ولا شك في أن بيرلسكوني يدفع اليوم الثمن من صورته وهيبته‏,‏ وإذا قمنا بتركيب قطع الفسيفساء التي تم تجميعها في هذه السنوات فسنجد أن بيرلسكوني رئيس فيننفست قام بإفساد قاض في روما وقام بتقديم تمويل غير مشروع للحزب الاشتراكي الأسبق بزعامة الراحل بيتينو كراكسي وقام بالتزوير في ميزانية مؤسسته فيننفست بما قيمته‏1500‏ مليار ليرة‏,‏ أي نحو‏750‏ مليون يورو وقام بالتلاعب في ميزانية حقوق البث التليفزيوني بين عامي‏88‏ و‏1992‏ لحماية إمبراطوريته الإعلامية وتواطأ مع شركات التأمين علي لاعبي نادي ميلان لكرة القدم الذي يملكه‏,‏ وكلها جرائم سقطت بالتقادم‏,‏ ولكننا وفي الوقت نفسه نجد إلي يساره المحامي وعضو مجلس الشيوخ بريفيتي الذي أدين بالسجن‏11‏ سنة علي اعتبار أنه كان وسيط بيرلسكوني في دفع رشاوي قضاة محكمة روما في قضية‏(‏ إس‏.‏ إم‏.‏ إيه‏)‏ وإلي يمينه مارشيلو ديللوتري رجل تحت تصرف مصالح المافيا‏,‏ وهذا ليس استعراضا أو سجلا مشرفا لأي رئيس وزراء في العالم‏,‏ خاصة رئيس الوزراء الإيطالي‏!‏ بعد أن تصدر اسمه وصوره الصفحات الأولي من صحف العالم فتناولت فاينانشال تايمز البريطانية العلاقة بين بيرلسكوني وديللوتري والمافيا ووصفت لوموند الفرنسية من انتخبوا بيرلسكوني بالعميان وأعوانه بالتعامل مع المافيا‏!