لا يبدو المشهد العربي العام على أعتاب السنة الجديدة 2005 مدعاة للكثير من التفاؤل الذي ينأى بنفسه عن السوداوية. ليس هذا بموقف متشائم يستبق بهذه النبرة غير المشجعة الأحداث القادمة، ولكنه يعتمد معطيات العام المنصرم كي يحاول استشراف القادم من الأيام. ولكن هذا الاستباق بصفته المتجهمة هذه لا يمنع حدوث المفاجآت التي يخبئها الزمن، كما أنه لا يلغي منابع الأمل والنبوءة المتفائلة التي ترنو إلى التقدم مادام هناك شيء من عوامل القوة واسباب الاستقرار مما هو متوفر في العديد من بقاع العالم العربي الكبير ومما هو مختزن في أفئدة وعقول حكمائه المستنيرين.
وإذا كانت فلسطين طوال عقود العصر الحديث هي قضية العرب المركزية، حسب منطوق الأدبيات السياسية المعروفة رسمياً وشعبياً، فإن إضافة القضية العراقية إليها بما تحمله من تعقيدات شائكة هو الذي ينذر بأزمنة الخوف ويفرض هذه اللهجة المتوجسة القلقة. فبدلاً من قضية واحدة عصية على الحل، لدينا اليوم قضيتان، وربما ثلاث، إذا ما أضفنا مسألة إقليم دارفور السوداني إلى لائحة الطوارئ المنذرة بالعديد من المشاكل والارتدادات، خاصة بعدما لوحظ من صور كثيرة جداً ومتلفزة للفرقاء المشتركين بهذه المشكلة وهم يوقعون الاتفاقيات والتفاهمات والبروتوكولات الواحد تلو الآخر، ولكن دون جدوى. والذي يزيد من توتر وتعقيد المشاكل في البقاع الملتهبة في العالم العربي يتمثل في التدخلات الخارجية التي لا ترى في مشاكلنا مجرد قضايا داخلية زائلة ينبغي التعامل معها عن بعد وبحذر شديد لأنها من صنف الشؤون الداخلية الخاصة بدول المنطقة. زد على ذلك تخبط بعض القيادات السياسية العربية في هذه المناطق، وهو ذات التخبط الذي غالباً ما ينطوي على الأنانية المتجسدة في رفض التعددية والميل القوي (لدى البعض من هؤلاء الساسة) إلى إحتكار الحلول لأنفسهم وإستبعاد المعارضين، بالرغم مما يشوب أذهان هؤلاء المتنفذين من قصر نظر ومن فقر في الأدوات وضعف في الحيلة. لذا أتاح مثل هؤلاء اللاعبين، الذين يشوبهم الهزال، الفرص الذهبية للدول الأجنبية الكبرى للتدخل في شؤوننا عبر توفير المبررات الإنسانية والأسباب الإقليمية التي يمكن امتطاؤها من قبل الأجنبي للعبث بالشؤون الداخلية للمنطقة، إذا كان لفظ عبث مناسباً في مثل هذا السياق الذي يرينا بعض الفرقاء المحليين وهم أكثر عبثاً وخطورة على ابناء جلدتهم من الأجنبي.
على المستوى المشرقي، تبقى القضية الفلسطينية ساخنة، ليس فقط لأنها مستعصية ومزمنة، بل كذلك لأنها تتواشج مع جميع المشاكل الإقليمية الأخرى، حيث ترتهن المشاكل في العراق وسوريا ولبنان بها، بينما تتسبب هي في تعطيل أو تأخير أغلب مشاريع التنمية القومية والإقليمية نظراً لكونها مصدراً متواصلاً للعوائق والعوالق. ثمة آفاق يحاول الإسرائيليون رسمها بأقلام وردية على أساس غياب عرفات ثم إندحار مدرسته العصية على الحوار والتفاهم، كما يدّعون، بيد أن هذه الآفاق غالباً ما تتلبد بغيوم الكراهية والتصلب والأنانية التي تجعل الإنطلاق نحوها عملاً شبه مستحيل. فإذا ما كانت خطة شارون بالإنسحاب الجزئي من بقاع فلسطينية محدودة (من أراضي ما بعد 5 يونيو 1967) فإنها لا يمكن أن تقدم هذا الرجل ملاكاً محلقاً للسلام نظراً لـ ثقل وزنه ولأنه ينسحب من هنا وأنظاره تتوجه إلى هناك، حيث التمسك بمساحات كبيرة من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، بوصفها تمثل نوعاً من الحزام الأمني للكيان الصهيوني. ومن ناحية ثانية، يبدو التصلب الإسرائيلي حيال قضية عودة اللاجئين تصلباً مبتنى على خوف هاجسي، إستراتيجي الأبعاد، يدفع إلى تقريم الطاقات البشرية والسكانية الفلسطينية وتحديد توسعها بالطريقة التي تسمح للتعاظم السكاني الإسرائيلي بالنمو على حساب الفلسطينيين بدرجة القدرة على المزيد من إبتلاع الأراضي الفلسطينية، كحالة أمر واقع. أما الفلسطينيون، فهم بدورهم يمتلكون مشاكلهم الداخلية العديدة والمعقدة، المتمثلة بمحاربة الفساد والدعوة للإصلاحات وللعمل الجماعي المتسق، وهي المشاكل التي نسمع أصوات المرشحين الداعين لمعالجتها على أبواب الإنتخابات بداية هذه السنة. ولكن حتى الإنتخابات التي لم تكن ممكنة بدون مغادرة الرئيس ياسر عرفات، رحمه الله، تعاني من مخاضات الولادة العسيرة ومن التصلب والتكلس الداخلي، حيث ترفض قطاعات شعبية وسياسية فلسطينية فاعلة ومهمة الإشتراك في العملية الديمقراطية نظراً لشكوكها بها وبإمكانيات نجاحها، خاصة في ظل الإحتلال الإسرائيلي والتنافسات البينية.
وإذا كان هذا الرأي عائقاً في طريق التقدم إلى الأمام في فلسطين، فإنه يبدو عائقاً أكثر صعوبة وتعقيداً عندما نأتي إلى العراق الذي إبتلى بإحتلال أجنبي بسبب ذات التصلب والعنجهية والأحلام البائسة ببناء إمبراطورية الوحدة العربية، ولكن برعاية غربية. وإذا كان الشعب العراقي قد وجد نفسه في بؤرة هذه المحنة بدون إرادته وبلا إستعداد كافٍ لها، فإن المشاكل التي بقيت كامنة ومؤجلة طوال العقود الطويلة منذ تأسيس الدولة العراقية بطريقة خاطئة، بدايات القرن الزائل، أخذت الآن تطفو على بشرة هذا البلد الغني والمتنوع، بشكل بثور خطيرة تخزن خراج السنين وتنبئ بأمراض وعلل عديدة تضني الطبيب وتعجز الدواء. لذا إستحالت الإنتخابات البرلمانية القادمة محكاً للكشف عن خفايا التعقيدات الشائكة والإختلالات الجادة التي غذتها الأنظمة الحكومية التي توالت على سدة السلطة ببغداد مذاك حتى عام 2003. وقد مثل كل من الإستقطاب الطائفي والشوفينية الأثنية وعدم القدرة على مغادرة تراث الأنظمة السابقة عدداً من أهم عوائق التقدم والتغير السلمي، الأمر الذي يقدم للمراقب الحذق نذراً يمكن أن تأتي على الأخضر واليابس بطريقة درامية مفاجئة، إذا لم تتم عملية تفادي مخاطر الحرائق الآخذة بالإندلاع والإمتداد هنا وهناك. وهي عملية دقيقة وحساسة للغاية تتطلب التوازن وبعد النظر وتجاوز الحساسيات على سبيل التوزيع العادل للفرص والثروات، درءاً لمخاطر الإستئثار ولروحية الغنائمية التي آلت بالمجتمع العراقي إلى هذا الدرك الثأري المتحامل من العواطف المختلطة والمشوبة بالضغائن وبخروج مارد الفوضى من قمقمه إلى فضاء المجتمع الكبير.
وإذا كانت قرائن الإساءات وخروقات حقوق الإنسان واضحة للعيان في إقليم دارفور، فإن جهود الحكومة السودانية للجم ولبتر مثل هذه التجاوزات من أجل إعادة بلاد السودان إلى مسيرها ووحدتها، هي الأخرى تتطلب التغاضي عن الكثير من نزعات الإستحواذ والهيمنة، خاصة وإن إلتهاب الموقف هناك راح يهدد وحدة البلاد تلك وينبئ بالكثير من التعقيدات الإضافية التي تغذى من قبل لاعبين أجانب لا يرون في الوضع بالسودان حالة ينبغي أن تتواصل، الأمر الذي يفرض سد الطرق أمام التدخل الأجنبي عن طريق تطويق الأزمة وإسقاط مبررات إمتطائها من قبل قوى غير وطنية.
لقد راح شبح إنتاج وتسويق الفوضى وتغذية التمرد يجتاح العديد من الدول العربية، ومنها تلك الدول التي بقيت طوال عقود رموزاً للإعتدال وللاستقرار، خاصة مع تصاعد الحركات الأصولية وتعاظم ظاهرة عزوفها عن الحوار بإتجاه الأعمال المسلحة، كلغة أكثر فهماً وإستيعاباً للتغيير وليس للتحاور. لذا يمكن توقع المزيد من الهجمات والتفجيرات في مثل هذه الدول، برغم ما تواجه به من إجراءات صلبة ورباطة جأش عالية، ذلك أن الظاهرة العنفية لم تعد ممكنة التطويق في هذه الدولة أو تلك، بقدر ما أنها صارت ظاهرة كونية الأبعاد تمد أذرعها الأخطبوطية عبر القارات، عملاً وتمويلاً وأسساً فكرية. لذا يكون من المتوقع أن تشهد هذه الدول المستقرة، من المغرب حتى دول المشرق العربي إضافات نوعية من المواجهات المسلحة التي يمكن أن تهز إستقرارها، ناهيك عن بروز ظاهرة المنافسات الإقليمية والخلافات الحدودية والعداءات الفردية بين هذا وذاك، الأمر الذي يشجع توظيف الإرهاب لأجل تحقيق مصالح آنية.
وإذا كان هناك ثمة أمل بالمنظمات الإقليمية لأن تلعب دوراً فاعلاً على طريق حل مثل هذه المشاكل عبر التدخل الجماعي بها، فإن آفاق هذه المنظمات (كجامعة الدول العربية) هي الأخرى مدعاة للإبتئاس وعدم التمادي في التفاؤل، خاصة وأن هذه المنظمات ولدت أصلاً مرتهنة في سياساتها وتمويلها وأهدافها برؤى الحكومات العربية، وليس برؤاها الخاصة التي ينبغي أن تستقى من أفكار النخب السراتية والفكرية العربية. ولكن بالرغم من أن المشهد المتبلور أمامنا من الآن هو مشهد ملبد بغيوم البغضاء والصراعات، يبقى الأمل كبيراً بتجاوز مسببات التردي والنكوص، ذلك أن الأمل هو مفتاح الفرج وطريق التحولات الطبيعية والواعدة. واحد من آفاق هذا الأمل يتمثل، نموذجاً، في تأسيس منطقة عربية حرة للتجارة البينية. هذه ظاهرة تدعو لإلتقاط الأنفاس لأنها تسمح بفسحة للتعاون الأخوي بين الأقطار العربية. وربما يتمكن الزعماء العرب بمعاضدة جماهيرهم من تجاوز مسببات الإختلال عبر المزيد من مشاريع التعاون والتماسك الجماعي الواعد بالخير كي يكون هذا إكسيراً مضاداً لأسباب التشرذم والتشتت