بات العراق قاب قوسين أو أدنى من انتخاباته العامة التي لا تفصله عنها سوى أربعة أسابيع فحسب من الآن. ومعلوم أن هذه الانتخابات ستسفر عن تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، فضلا عن انتخاب المجلس التشريعي، الذي سيضطلع بصياغة مسودة الدستور الدائم للبلاد. ومن الواضح أيضاً، أنه ما من مسودة دستور تصاغ في ظل ظروف عدم تمثيل أجزاء من العراق في اختيار المجلس التشريعي المرتقب، يمكن أن تتسم بالشرعية وتمثيل حقوق كافة العراقيين. ففي ظل التمثيل النسبي المعمول به الآن، يجري التعامل مع العراق كله باعتباره منطقة انتخابية واحدة، بحيث يترك ضعف التصويت والاقتراع في بعض الأجزاء، تأثيراً إيجابياً كبيراً على نسبة الاقتراع والتصويت في الأجزاء الأخرى، وهكذا تترك شريحة لا يستهان بها من المجتمع، غير ممثلة كما ينبغي، بينما تمثل أجزاء كثيرة من البلاد بنسبة أقل من وزنها الحقيقي بكثير. وعلى الرغم من شكوكي ومخاوفي، فنحن على أهبة الاستعداد للمشاركة في هذه الانتخابات، وقد أودعت بالفعل قائمة بأسماء المرشحين عن حزبي. غير أنني لا زلت على قناعة بأن في تأجيل الانتخابات لبضعة أشهر، ما يمكننا من جذب مجموعات سياسية لا تزال خارج دائرة العملية السياسية، في ذات الوقت الذي نحسن فيه تصدينا لتعقيدات الوضع الأمني.
وقد شهد هذا الوضع تدهوراً كبيراً وملحوظاً خلال الأشهر والأسابيع القليلة الماضية. فما من أحد كان بوسعه أن يتصور قبل عام من الآن، أن يرفض الآباء إرسال بناتهم وأولادهم إلى المدارس، بسبب تفشي أعمال الاختطاف داخل العاصمة بغداد نفسها. بل لقد أخبرني أهالي العاصمة أنهم لا ينوون مغادرة بيوتهم يوم بدء الاقتراع، نتيجة لخوفهم من العمليات والهجمات التي سيشنها ضدهم "الإرهابيون". والشيء نفسه يمكن أن يقال عن مناطق ومدن أخرى مثل الفلوجة وسامراء والموصل، حيث كشف هجوم أخير شن على قاعدة للجيش الأميركي، مدى سهولة عرقلة وزعزعة العملية الانتخابية، مثلما هو حال التفجيرات الأخيرة التي شهدتها مدينة كربلاء. وفي ظل الظروف الأمنية القائمة اليوم، فما من شيء أصعب إجراءً هنا، أكثر من العملية الانتخابية، والدفع بالناخبين إلى مراكز وصناديق الاقتراع. ويصدق هذا حتى على المناطق الأكثر أمناً واستقراراً في أقاصي شمال وجنوب البلاد، وهي مناطق مسالمة بحكم طبيعتها. وإذا ما دعا المرشحون ناخبيهم إلى تنظيم وقيادة المواكب الشعبية العامة، فإن ذلك لا يعني شيئاً آخر في ظل الظروف الراهنة، سوى دعوة مفتوحة وصريحة من هؤلاء المرشحين لـ"الإرهابيين" والقتلة، كي يصوبوا بنادقهم ورشاشاتهم ومتفجراتهم إلى صدور الناخبين، فيحيلوا المواكب السياسية المسالمة، إلى حمامات للدم والموت الجماعي. وفي الوقت ذاته، فإن انقطاع التيار الكهربائي المتكرر طوال اليوم، وأزمة الطاقة العامة التي تعانيها البلاد، يحولان دون إذاعة الدعاية والنشرات والرسائل الانتخابية الموجهة للناخبين سواء عبر الإذاعة أم التلفزيون.
على رغم كل هذه الظروف والمصاعب الموضوعية، هناك من يقول إن تأجيل الانتخابات سيكون نصراً لمخططات "الإرهابيين". ومن جانبي أقر بأن هناك وجاهة وحجة في هذا القول. لكن علينا ألا ننسى أن هناك أكثر من طريقة وطريقة، يمكن بها لـ"الإرهابيين" أن يحققوا نصراً علينا خلال هذا الشهر. وتتمثل إحدى هذه الطرق، في نجاحهم في إبعاد عدد كبير من الناخبين عن صناديق ومراكز الاقتراع. ومن البديهي أن مقاطعة الناخبين للعملية الانتخابية لن تصدر في هذه الحالة، عن موقف سياسي مسبق من الانتخابات، وإنما خوفاً وحرصاً على سلامة الأرواح. وإذا ما حدث ذلك، فستسفر العملية الانتخابية عن نتائج، ينمو ويتعاظم الشك في مدى شرعيتها. وأياً كان المنتصر في انتخابات كهذه، فإنه سيزعم لنفسه التفويض والشرعية الشعبيين، بينما تزعم فئات أخرى عن حق، أنه لم يتم تمثيلها في تلك العملية. وما من سيناريوهات أخرى، أكثر قدرة على الدفع بنا باتجاه الفوضى السياسية والنزاعات والاحتراب الأهلي، من نتيجة انتخابية كهذه.
ثم إن هناك أسباباً أخرى، تحملنا على تأجيل الانتخابات، عدا عن تلك المتعلقة بالوضع الأمني. فبسبب بربرية النظام العراقي السابق، تعرض العراق لهجرات سكانية واسعة لمواطنيه إلى الخارج. وباتت نسبة كبيرة من الناخبين العراقيين تعيش خارج البلاد. وغني عن القول إن التخطيط لإشراك الناخبين المهاجرين في العملية الانتخابية، يستغرق وقتاً. وفوق ذلك، فإن لجنة الانتخابات العراقية المستقلة، لم تتمكن بعد، من تمثيل العراقيين بما يكفي في الانتخابات المقبلة، الأمر الذي دفع الكثيرين للاعتقاد خطأ، بأنه سيتم اختيار الرئيس العراقي القادم، اختياراً مباشراً. وتشف هذه الحقيقة عن خطأ ارتكبناه نحن النخبة السياسية هنا. ويتمثل هذا الخطأ في عدم إدارتنا حواراً وطنياً عاماً حول مستقبل بلادنا، وعن طبيعة النظام الدستوري المتوقع، ونظام حكم القانون وآفاق تطبيق الحكم الفيدرالي، على الرغم من أن هذه القضايا هي التي تواجه المخاطر أكثر من غيرها اليوم. وعليه فإذا ما تم تأجيل الانتخابات لبعض الوقت، فإن ذلك سيعطينا وقتاً لإشراك الناخبين المهاجرين في العملية الانتخابية، فضلا عن إدارة حوار وطني أوسع، حول القضايا العامة التي تهم العراقيين ومستقبل بلادهم.
وعلى رغم مناداتي بتأجيل الانتخابات، إلا أنه ينبغي علينا ألا نهدر الوقت - فيما لو تم تأجيلها- في تكرار واجترار ما كنا نفعله في السابق. فعلينا خلال فترة التأجيل، أن ننخرط في السعي لتحقيق المصالحة الوطنية، حتى تشارك كافة الفئات والجماعات العراقية في العملية الانتخابية. وعلينا أن نبدأ من الآن، تحديد تلك المجموعات التي لا تزال خارج العملية السياسية، والتي يمكن إجراء حوار معها. ويتطلب هذا، تمييز المجموعات المعنية عن الجماعات "الإرهابية"، العاقدة العزم على تقويض العملية السياسية برمتها، والوقوف حجر عثرة أمام تقدم العراق صوب الديمقراطية والتعددية السياسية. ومع وضعنا في الاعتبار مشاعر المرارة والتظلمات التي تثيرها بعض هذه المجموعات، نتيجة للاحتلال الذي انتهى أمده في يونيو من العام الماضي، فإن عقد مؤتمر للمصالحة الوطنية مع الجماعات المذكورة، من شأنه أن يخدم عدة أهداف في هذا المنحى. وفي اعتقادي أن مؤتمراً كهذا، سيشكل خطوة مهمة وحاسمة باتجاه دق إسفين بين هذه المجموعات والجماعات "الإرهابية". كما يمكن التصدي للتظلمات المرفوعة من قبل هذه المجموعات، وذلك بجعل المؤتمر، مائدة للمصالحة الوطنية الحقة، وليس مجرد إجراء تجميلي سياسي. وفيما لو حدث ذلك، فإنه سيضمن مشاركة واسعة ليس في المؤتمر فحسب، وإنما في الانتخابات العامة التي ستتلوه أيضاً.
وختاماً، فإنه لابد من تهيئة أجواء التوافق والمصالحة الوطنية بين العراقيين، كي يطمئن المواطنون على استمرار مشاركتهم في عملية التحول السياسي باتجاه الديمقراطية والتعددية. ولما كان تأجيل الانتخابات في أفغانستان، قد عاد عليها بقبول شعبي واسع للنتائج التي أسفرت عنها، فإن هدفاً مماثلا، يجب أن نضعه نصب أعيننا ونحن نعد لاتخاذ هذه الخطوة المهمة في تاريخنا السياسي. ففي نهاية المطاف، من المهم جداً أن تهيأ كافة الشروط التي تجعل العراقيين يقبلون نتائج الانتخابات ويعترفون بشرعيتها، بصرف النظر عمن يفوز بها.