تفصل فجوةُ مساحةٍ شاسعةٍ بين الإعلان عن إقامة أوروبا الست في الثامن عشر من أبريل/نيسان سنة 1951 وبين تشكيل الاتحاد الأوروبي المكون اليوم من 25 دولة أوروبية يعرض دستورها الموحد على الشعوب الأوروبية لإقراره سواء في أوروبا الغربية أو الشرقية.
إنه مسار نصف قرن قد يراه البعض قريبا والبعض الآخر بعيدا، لكن أوروبا سارت عليه بخطوات وئيدة متزنة وقطعته بسرعة قياسية مذهلة.
أوروبا الدول الست سنة 1951 قفزت على سلّم التدرج والارتقاء إلى صيغة الرابطة الاقتصادية الأوروبية، (أو السوق الأوروبية المشتركة)، وذلك ما بين سنة 1951 وسنة ،1958 بعد أن اقتصرت في سنوات تأسيسها الأولى على مجرد تنسيق سياساتها في مجال طاقات الفحم والحديد والفولاذ. وهو جهد يبدو متواضعا محدود الطموح، لكن طموحه المتواضع كان بكل تأكيد وراء نجاح مشروع الاتحاد الأوروبي، لأنه - وهو يأخذ بالاعتبار السياسة الواقعية - يشيد في نفس الوقت الصرح الأوروبي لبنة فوق لبنة، ويرسم للخطوات مواقعها بدقة حتى لا تقع الأقدام في المنزلقات.
أوروبا اليوم تدرجت على السّلّم ليصبح اتحادها القطب العالمي الثاني بعد الولايات المتحدة، والذي يركز وجودَه بقوة في الساحة الدولية، ويناهض ديبلوماسيا طموح القطب العالمي الأول وتطلعه إلى فرض هيمنته على العالم. ويقتعد القطب الأوروبي مقعد المخاطَب القوي الذي لا يمكن أن يتم مع وجوده لأية قوة عظمى الاستفراد بالشأن العالمي دون موافقته ورضاه.
بائتلافه اليوم من 25 دولة أصبح الاتحاد الأوروبي يزيد من حيث حجم السكان على 400 مليون نسمة، متفوقا بعدده على الاتحاد الفيدرالي الأمريكي المسمى الولايات المتحدة التي لا يزيد سكانها على 260 مليونا. وإذا ما تم التحاق جمهورية تركيا البالغ سكانها 80 مليونا به فسيزداد قوة متميزة بوفرة محتواها بين قوات العالم الكبرى.
انطلاقا من ماضي الانتماء إلى أوروبا يصنع الاتحاد مستقبل تجمعه الكبير، لكنه كلما تطعم بالتحاق دول من خارج أوروبا ابتعد عن ماضيه، وغير إلى حد ما من طبيعته، وانتقص من مقومات هُويته. وهذا ما يعني أنه يوجد اليوم بين خيارين : خيار التقوقع في ماضي أوروبا كوحدة جغرافية، أو خيار الانفتاح على الآخر، والمستقبل الآخر. وشِقّا الخياريْن يتطلبان الكثير من التفكير، والكثير من الجهد والمعاناة قبل أن تتحرك أقدام أوروبا على مسار الماضي الغابر، وتختار أن تتحرك على درجات سلّم المستقبل الواعد.
مما لا يقبل الجحود والإنكار أن ميزان القوى بين أقطاب العالم يلعب فيه البعد الكمي دورا مهما لا يمكن إغفاله أو تجاهله. لكن أيضا للبعد النوعي دوره الذي لا يجب إغفاله. إن الصين والهند - وبصرف النظر عن مقومات تركيبتيهما - يُعتبَران قطبين، لأن سكان كل واحدة منهما اجتازوا عتبة المليار نسمة. وبالطبع لا يكفي البعد الكمي في ضبط ميزان القوى إذا لم يواكبه البعد النوعي، فقد يكون الواحد كألف، والألف كأُفّ. لكن توفر الكم يساعد على توفير النوع خاصة في عهدنا الحاضر الذي ينظّر ويدعو لتعميم محصول التنمية الشاملة على المجتمعات، ومشاركة القواعد الشعبية في بناء عظمة الدول وإعلاء صروحها. ومن هذا المنظور يبقى للبعد الكمي فعاليته.
لقد تعززت قوة الولايات المتحدة الأمريكية بفتح أبوابها منذ نشأتها وإلى اليوم -في وجه الوافدين عليها من مختلف أرجاء العالم- وأدمجتهم في نسيجها الاجتماعي فأفادوا وطنهم الجديد من خبراتهم، وعُصارات أفكارهم، وجهد عضلاتهم. وهي تخصص كل سنة حصة عددية (كوتا) للأقطار العالمية النامية أو السائرة في طريق النمو، ليلتحق منها مواطنوها بالولايات المتحدة ويصبحوا مواطنين أمريكيين كاملي المواطنة يلتفون على وحدة المواطنة، لهم حقوق وعليهم واجبات متساوية.
وقد استفادت الولايات المتحدة الكثير من هجرة الأدمغة إليها في بناء صرحها الكبير، ومن بينها يوجد عرب ومسلمون من المستويات العلمية العليا. وبذلك زاوجت بين تضخيم الكيان الأمريكي بوفرة العدد، وبين توفير الكم النوعي لرفع مستوى الإنتاج الأمريكي في جميع المجالات.
وهل كانت الولايات المتحدة ستكون ما هي عليه اليوم من ازدهار وعظمة وتفوق لو لم تراهن على فتح أبوابها للوافدين عليها للاستفادة من عطائهم؟ أو بقي سكانها الأصليون الهنود الحمر يشكلون العنصر السائد فيها؟
ماذا يربط بين الدول الأوروبية التي تتجمع اليوم في الاتحاد الأوروبي؟ وما هي هُوية هذا الاتحاد ومقوماته؟ وهل يمكن القول إنه يقوم على القومية الأوروبية مثلما تقوم الجامعة العربية (مثلا) على القومية العربية؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بنعم، لأن القومية الأوروبية تفتقد مقوماتها الأساسية من وحدة اللغة، أو وحدة الدين، أو وحدة العرق. ومن هذه الوحدات تتشكل الهُوية. وأوروبا التي تشكلت في صيغة الاتحاد الأوروبي تفقد هذه الهوية لأنها قارة متعددة اللغات والأعراق والديانات. وإذا كانت أغلبيتها مسيحية، فإنه توجد فيها عقائد أخرى ضعيفة التأثير، ومسيحية دولها استبعِدت بتحويل معظمها إلى نظم علمانية. وتاريخ أوروبا حافل بالحروب التي مزقتها وبعضها طال مائة سنة. ولا يبقى للاتحاد الأوروبي - والحالة هذه- من مقومات الوحدة إلا البعد الجغرافي، أي الانتماء إلى قارة أوروبا، وهو مقوم غير كاف لتشكيل هُوية، لكن الوحدة الاقتصادية التي كانت الخيار الأساسي لإقامة الاتحاد عليه تجبر الكسر التاريخي والشرخ المجتمعي الذي عرفته القارة طوال سنين وقرون.
إن انخراط اليونان في الاتحاد يشوش إلى حد ما على ضبط مقوم الوحدة الجغرافية. والسؤال المطروح هل اليونان دولة أوروبية، أو أنها تتموقع في الوسط بين قارتي أوروبا وآسيا؟ وكيفما كان الجواب فإن وجود دولة اليونان بالاتحاد قد يعني أنه وقع التجاوز عن اعتبار وحدة الموقع الجغرافي أساسا لوحدة أوروبا، وأن الجامع في المرحلة الحاضرة ليس هو الوحدة الجغرافية، أو الثقافية، أو الدينية، بل هو فقط الوحدة الاقتصادية التي تتمظهر في حرية التبادل التجاري والسوق الأوروبية المشتركة، وتوحيد عملة اليورو. وهي رابطة أثبتت التجربة رسوخها خاصة في عهد العولمة التي تمتد عبر العالم امتداد الأخطبوط. إن ذلك يعني أن أوروبا الاتحاد تبحث لنفسها عن هوية تفتقدها.
وعندما أُعِدّ الدستور الأوروبي الذي أشرف على إعداده الرئيس الفرنسي السابق “جيسكار ديستان”، وبعد استقباله من لدن البابا قيل إن هذا الأخير أبدى رغبته في أن ينص الدستور على حضارة أوروبا المسيحية، لكن النص النهائي للدستور لم يحتو على هذا التوجه. وهو ما يعني أن مقوم وحدة الدين أو الحضارة استبعِد من مقومات الهوية الأوروبية.
واليوم وقد انتهت المحادثات الأولية بين الاتحاد الأوروبي وتركيا إلى قبول الاتحاد الدخول في المفاوضات مع تركيا للنظر في إمكانية التحاقها بالاتحاد يُطرح هذا السؤال : هل يتجاوز الاتحاد مُقوم الدين ليُستبعَد هو الآخر عن الاعتبار سلبا وإيجابا، أم أنه سيُعتبَر حمل دولة لشارة الدين عائقا لانخراطها في المجموعة الأوروبية الحالية التي لا حضور للدين في تصورها؟ قد يقال إن تركيا استبْعَدت مقوم الدين منذ إعلان “مصطفى كمال” النظام العلماني على أنقاض الخلافة العثمانية المنهارة. لكن يبقى مع ذلك أن الشعب التركي في أغلبيته الساحقة مسلم حنيف، ولا يمكن إنكار ذلك ولا تجاوزه، خاصة والدولة التركية تنعت على الصعيد الدولي بأنها إسلامية. أليست عضوا في منظمة المؤتمر الإسلامي الذي يضم ما يقارب ستين دولة إسلامية؟
إن كل ذلك يفضي إلى القول إن الاتحاد الأوربي يفتقد الهُوية الجامعة التي كانت معتمدة إلى بداية هذا القرن. وهو يعمل جادا للبحث عنها. وإذا ما انخرطت تركيا فيه، فسيصبح هذا السؤال أكثر إلحاحا لتحديد صيغة الهوية الأوروبية.
والمرجح أن التجربة الأوروبية ستفرز اعتبار الوحدة الاقتصادية المؤدية إلى الوحدة السياسية المقوم الوحيد في منظومة الوحدات، والكافي لتحقيق تضامنها وتعاونها. وهو تغيير جذري لمفهوم الهوية في عالم العولمة التي تمضي قدما لتصبح النظام العالمي الوحيد السائد على قارات القرية الكونية الواحدة.