لندن من محمد الشافعي: رغم أن المصريين القدماء استخدموا خلطات معقدة من المستخرجات النباتية والحيوانية لتحنيط موتاهم قبل آلاف السنين من مفهوم ديني بحت، إلا أن قادة الكرملين عندما حنطوا جثمان زعيمهم فلاديمير لينين مؤسس الاتحاد السوفياتي عام 1924، كان الهدف منه استخدام جثمان لينين، الذي توفي بعد اصابته بجلطة دماغية عام 1922 «كوجه موحد لاستمرار الديكتاتورية الشيوعية».
وقد كان قدماء المصريين يؤمنون بفكرة الحياة بعد الموت. وكانت الديانات المصرية القديمة تقول إن الإنسان لا يمكن أن يبعث في الآخرة إلا بعد أن تعود الروح إلى الجسد. واعتقد الفراعنة أنه ينبغي تحنيط الميت لحماية جثته من التحلل كي تتمكن الروح من العثور والتعرف على الجسد لتتم عملية البعث. وقد طور الفراعنة أساليب التحنيط على مدى مئات السنين واكتشفوا أنه يجب في البداية إزالة الأعضاء الداخلية لحماية الجثة من التحلل، ثم معالجتها بالأملاح والأصماغ وزيت الأرز والعسل والقار بهدف تجفيفها وحمايتها من الجراثيم. وكان اختيار مكونات مواد التحنيط يتأثر بعامل التكلفة وبصيحات الموضة التي كانت سائدة، إذ كان أثرياء قدماء المصريين يحرصون على شراء مواد التحنيط الثمينة لتكريم موتاهم، مثلما يلجأ بعض الأثرياء اليوم لشراء التوابيت الثمينة وبناء المقابر الفاخرة.
ونفس الفكرة تقريبا تكررت بصورة أو بأخرى بعد ذلك بآلاف السنين عند النظر في تحنيط جثمان لينين، الذي عرضت القناة الخامسة البريطانية برنامجا وثائقيا مساء الجمعة 17 ديسمبر (كانون الأول) كشفت فيه لأول مرة عن الأسباب التي دفعت جوزيف ستالين إلى تحنيط سلفه الذي بات أسطورة حية ترمز إلى الشيوعية كمنهج سياسي. وتطرق البرنامج البريطاني إلى السرية التي ضربت في المختبرات الروسية على أساليب وفنون التحنيط التي استخدمها العلماء عند تحنيط جثمان لينين. ويقول البروفسور روبرت سيرفيس، مؤلف كتاب «لينين: سيرة ذاتية»: بعد ان دفع بلده عبر حرب أهلية طاحنة، تحول لينين إلى «مسيح الشيوعية»، أي بصيغة أخرى «مركزا لفكر غير ديني». مات لينين عام 1924 بعد إصابته بجلطة دماغية عام 1922، ثم وقف آلاف الناس في طابور طويل لرؤية جثمانه. رأى جوزيف ستالين الطاقة الكامنة تتحقق عبر إقامة حداد واسع لسلفه، وأن تعلق الجماهير بلينين سيفيد حتما سلطته. وهذا ما دفعه حسبما يقول سيرفيز في كتابه، إلى «استخدام لينين في موته كوجه موحد لاستمرار الديكتاتورية الشيوعية». وكانت أرملة لينين تعرف أن عدم دفن جثة زوجها هو معارض لرغباته، فهو كان يفضل طقوس دفن بسيطة وهادئة لكن ذلك لم يتحقق له أبدا. وتحول جثمان لينين منذ نجاح تجربة تحنيطه عام 1924، إلى ضريح علماني للشيوعيين. ويحفظ جثمان لينين في ضريح فخم بالميدان الأحمر بالعاصمة موسكو، حيث تحفظ درجة الحرارة وضغط الهواء عند مستوى ثابت. ويحتاج جثمان لينين لرعاية مستمرة حتى يظل في حالة جيدة، إذ يمسح وجهه ويديه بمحلول خاص مرتين أسبوعيا، كما يتم إغلاق الضريح مرة سنويا ليوضع جثمان لينين في المحلول نفسه. ويسجى جثمان لينين في ضريحه كرمز لإلهام أجيال من الشيوعيين. وقد اعتاد آلاف من مواطني الاتحاد السوفياتي السابق الاصطفاف في طوابير طويلة كل يوم لإلقاء نظرة على الرمز. لكن الحال يختلف الآن، فحرس الشرف الذي كان مرابطا أمام الضريح بصورة دائمة لم يعد موجودا، كما أن عدد الزوار انخفض بشكل ملحوظ. وشهدت روسيا مؤخرا عددا من الدعوات التي تطالب بإزالة الجثمان من الضريح ودفنه.
وكان قادة الكرملين يرون عام 1924 ضرورة الحفاظ على جثمان لينين، والقيام بذلك بأسرع ما يمكن، خصوصا إن التعفن بدأ بالتغلغل في خلاياه مع اقتراب أشهر الشتاء.
لكن من هو المستعد والقادر على تنفيذ مهمة من هذا النوع؟ تم اختيار البيوكيميائي زبارسكي وخبير التشريح فوربيوف. وفي مختبر سري تم اختياره لهما في موسكو، بدأت تجارب العالمين على جثة لينين حيث استخدما جثثا بشرية لاختبار التقنيات التي ستستخدم على جثة لينين، واحد هذه النماذج سمي بـ«نسخة لينين» لشبهه الكبير بلينين الأصلي، وعرف لاحقا بـ«لينين التوأم».
ومن خلال بحوث العالمين تم اختبار كل طرائق التحنيط، بما فيها التي استخدمها المصريون القدامى في تجفيف الجلد، لكنهما احتاجا إلى طريقة للحفاظ على ملامح لينين الخارجية. كان ستالين يريد ان يكون الجمهور قادرا على مشاهدة زعيمه السابق المتوفى في أبهى صورة انسانية. وفي الأخير تمكنا من التوصل إلى طريقة ثورية تسمح للجثمان بإشباعه بمواد كيميائية حافظة. وبعد أزمة مرا بها حيث راح الجلد بالتحول إلى اللون الأسود أضيفت اللمسات الأخيرة له وهذا يشمل تبديل عيني لينين بعينين زجاجيتين، ثم تخييط أجفان العينين لإعطاء صورة هادئة له. كان الجثمان جاهزا للعرض قبل انتهاء شهر يوليو (تموز) 1924، ثم وضع في ضريح خاص به في الساحة الحمراء بموسكو. في البدء تمت مكافأة العالمين زبارسكي وفوربيوف من خلال المكافآت المالية وتعزيز موقعيهما الاجتماعيين، لكنهما ظلا معرضين للمخاطر تحت حكم ستالين، إذ وضع زبارسكي في السجن عام 1952 لجريمة مجهولة، أما فوربيوف فمات تحت تأثير مرض غامض. لكن عملهما التحنيطي استمر بعدهما. وحينما توفي ستالين بعد عام واحد على سجن زبارسكي، تم تحنيطه هو الآخر مباشرة، ثم تم وضعه إلى جنب لينين لكن تم سحبه من ذلك الموقع تحت حكم خروتشوف، ثم تم دفنه عند جدار الكرملين.
ومثلما أظهرت التحاليل التي أجريت على عينات مأخوذة من مومياوات تنتمي لعصور متلاحقة من مصر القديمة أن الفراعنة طوروا مواد التحنيط بمرور الزمن بإضافة مكونات قاتلة للجراثيم لحماية المومياوات من التحلل، واستخدموا زيوتا نباتية ودهونا حيوانية كمكونات اساسية لمواد التحنيط، فإن مجموعة من العلماء الروس تعكف في الوقت الراهن على البحث عن أسلوب يضمن خلود جثمان مؤسس الاتحاد السوفياتي.
وأصبح مختبر موسكو بعد ذلك مركزا عالميا للتحنيط والكثير من حلفاء موسكو تم تحنيطهم بنفس الطريقة، وهذا يشمل الزعيم الفييتنامي هوشي مِنه. وفي عام 1991 ومع سقوط الشيوعية، تم تقليص ميزانية المختبر بمقدار 80 في المائة، لكن بعض العلماء بدأوا يستفيدون ماليا من خلال عرض خدمات التحنيط بشكل تجاري على الجمهور والأثرياء وزعماء عصابات المافيا الروسية، الذين كانوا أول المستجيبين لعروض تحنيط جثثهم بعد الموت. ومنذ سقوط الشيوعية فتح المختبر أبوابه وتم الكشف عن الكثير من أسراره. وعلى الرغم من إنكار الحكومة للكثير من الأقاصيص المتعلقة بالعناية بجثمان لينين، اتضح أنه كان هناك فريق من المتطوعين الذين يقومون بغسله بمواد كيمياوية كل 18 شهرا. والشيء الغريب أن هذه الإجراءات كانت تتبع لصالح جثمان «لينين التوأم» أيضا حسب بعض الأشرطة السينمائية.
وعلى الرغم من هذه الكشوف التي وقعت قبل عدة سنوات فقط، فإن هناك بعض الأسئلة التي لم تقدم لها إجابات، فقد يقدم البحث في دماغ لينين الذي ما زال محفوظا في «معهد الدماغ»، إجابة عن سبب وفاته.
ومرتان في الأسبوع يصل12 خبيرا إلى الضريح لإجراء الفحص الروتيني على الجسم المحنط، ومرة كل عام ونصف عام، تجري معالجة الجثمان بطريقة أكثر تعقيدا، فالبقايا توضع في بركة تحتوي على مسحوق كيماوي خاص، وتجري الاختبارات بمساعدة أجهزة فريدة وآلات عالية الدقّة أخرى 8ولم تسجل تغييرات في الجثة منذ أكثر من 20 سنة. وقد شيد ضريح لينين في الساحة الحمراء في موسكو المصمم الموهوب أليكسي شوسيف، الذي صمم العديد من الأبنية الأخرى في العاصمة الروسية. النسخة الخشبية الأولى للضريح افتتحت بعد بضعة أيام من موت لينين في27 يناير (كانون الثاني) عام 1924، وبدأت موسكو ببناء ضريح خشبي جديد، أضحى جاهزا بحلول شهر أغسطس (آب) من العام نفسه. وضريح لينين بعرض24 مترا وبارتفاع12 مترا. وهرم الضريح يتكون من خمسة طوابق مختلفة الأحجام.
ومثل هذه الأضرحة التي تحتوي على جثث محنطة لزعماء شيوعيين، ما زلت قائمة حتى الآن في آسيا، مثل نانكين وبيكين وهانوي وبيونغ يانغ.

* مئات الجثث جمدت في الغرب أملا في إنعاش أصحابها يوما
لندن: الإحصاءات غير الدقيقة تقول إن مئات الاشخاص في أوروبا والولايات المتحدة لجأوا إلى عمليات تجميد أجسادهم بعد الممات أملا في إنعاشهم ثانية في يوم ما في المستقبل عندما تتيح التكنولوجيا ذلك، هذا إن نجحت هذه التكنولوجيا.
فقد غمست جثثهم في مغطس مليء بالنيتروجين السائل، وتم تخزينهم بدرجة حرارة 197 مئوية تحت الصفر. ويتمثل التحدي الذي يواجهه العلم في العقود المقبلة في امكانية إنعاشهم بنجاح. وهناك حوالي ألف شخص يعتقدون أن العلم سينجح، وقاموا بالاشتراك مع معاهد غير ربحية وشركات تجارية تساعد على تجميدهم بعد موتهم. وظهرت فكرة التجميد ثم الإنعاش في الفترة بعد عام 1861، عندما قام المؤلف الفرنسي إدموند أباوت بنشر قصة «الرجل ذو الإذن المكسورة»، وهي رواية عن عالم يجمد شخصا ثم ينعشه في ما بعد عندما يتوفر علاج لمرضه. ويعتبر تجميد الإنسان مبدأ شعبيا في هوليوود، إذ تم إنتاج الكثير من الأفلام التي تدور قصتها حول إنعاش شخص ما بعد أن كان مجمدا لفترة طويلة من الزمن.
ويعتبر روبرت إيتنجر الذي يبلغ 83 سنة، الشخص المسؤول عن إخراج التجميد من عالم الخيال، إذ تصور إيتنجر في الثلاثينات من القرن الماضي، مستقبلا متقدما علميا أكثر من اليوم. ولكن التطورات الطبية خلال الثلاثين سنة الماضية، وخاصة تلك التي تتعلق بإنعاش ضحايا السكتة القلبية والغرق، شجعته على الاستمرار. ويقول إيتنجر ان الموت يعتبر نسبيا، إذ يتم إنعاش آلاف الأشخاص كل عام بعد ان عانوا من موت سريري. وفي الاوقات السابقة كان هؤلاء يتركون ليموتوا، سواء ظلوا في تلك الحالة لفترة 20 دقيقة أو 20 سنة، فهذا لا يهم.
ويحتوي مخزن معهد إيتنجر للتجميد على 41 شخصا ميتا، بمن فيهم زوجتاه الاثنتان وأمه. والمعلوم ان صيانة الجثث عملية سهلة، إذ يجري تخزين الجثث في أسطوانات أو خزانات مستطيلة في أكياس نوم مغموسة بالنيتروجين السائل. ويقوم هو بزيادة كمية النيتروجين كل خمسة أيام، ولكن يمكنه أيضا أن ينتظر لمدة أسبوعين عند الضرورة.
ويطلق على الجثث مصطلح «المرضى»، وهؤلاء الذين دفعوا مبلغ 28 ألف دولار ليتم تجميدهم يعتبرون «أعضاء»، ومعظمهم من الطبقة الوسطى الذين يستخدمون بوليصة التأمين على الحياة لدفع ثمن الحفاظ والصيانة. ويمكن أن يجمد الرأس فقط في مؤسسة ألكور مقابل مبلغ باهظ ولا يجمد إيتنجر إلا أجسادا مكتملة.

* التحنيط عند الأمم القديمة
* المقصود بالتحنيط هو المحافظة على شكل الجسم المراد تحنيطه، وإكسابه مقاومة ضد العوامل الطبيعية كي لا يتحلل، أو يتفاعل مع الجو المحيط به.
وهو علم مورث في معظم الحضارات التي سادت العالم منذ القدم، ويحكي لنا التاريخ الحضاري لكثير من الأمم، ممارسات للتحنيط مختلفة الأهداف، وخاصة في حضارة وادي النيل، إذ أن بعض المومياوات المحنطة منذ آلاف السنين ما زالت سراً يتحدى العلماء والتقدم التكنولوجي في قرننا هذا.
وتفسيراً لعملية التحنيط عند الفراعنة في عهد الأسرة القديمة قبل بناء هرم الجيزة، فقد استفاد الأطباء المصريون كثيراً من علم التحنيط، الذي عرف المصريون به وعُرف بهم، فلم تجارهم فيه أمة من الأمم، ولقد برعوا فيه وأتقنوه وأفادهم ذلك في دراسة التشريح، فعرفوا الأعضاء الداخلية لجسم الإنسان.
ولقد تقدم فن التحنيط على مر الأجيال من العهود الأولى إلى العصر البلطمي، فاختلفت مواده وطرقه من جيل إلى جيل، ولكن الخطوط الرئيسية بقيت كما هي تقريبا، فكان المُحنط يقوم بغسل الجثة ثم استخراج الأجزاء التي تتحلل، فكان يخرج الدماغ ويشق البطن ويخرج الأمعاء والمعدة، وكذلك ما بالصدر. وكان الفراعنة يبقون القلب في محله لأن بقاءه ضروري في نظرهم في الحياة الأخرى، واستعادة الروح للجسم، وكذلك الكليتين، ثم ينظف المحنط تجويف البطن والصدر بنبيذ البلح ويحشوه بالبهارات والعطريات، ثم يضع الجثة في حمام من النطرون لمدة سبعون يوما، ومن ثم يلفها بطبقات من الكتان المبلل بالصمغ فتحفظ لأجيال عديدة، ولقد ساعدت المومياوات التي اكتشفت لكشف ومعرفة بعض الأمراض التي كانت سائدة في زمانهم.