لم تكن 2004 سنة رحيل ياسر عرفات واستمرار الحرب على الإرهاب والاحتلال الأميركي للعراق فحسب، بل كانت أيضاً سنة تأكيد الولايات المتحدة انها القوة العظمى الوحيدة في العالم أيضاً. أوكرانيا المكان المفضل الذي كرست فيه أميركا مبدأ وحدانية القرار العالمي. وهي أظهرت ان الاتكال على روسيا لا يفيد في شيء وأن امتلاك روسيا السلاح النووي ليس كافياً كي تكون لديها مناطق نفوذ تمارس فيها دور القوة المهيمنة.
كانت كل المعطيات تشير إلى ان روسيا لا يمكن أن تتخلى عن أوكرانيا. هناك التاريخ وهناك الجغرافيا وهناك الاقتصاد وهناك حتى وجود سكاني روسي في أوكرانيا. لم يكن كل ذلك كافياً للوصول إلى صيغة تضمن بقاء أوكرانيا تحت المظلة الروسية على غرار ما كانت عليه دول أوروبا الشرقية أيام كان هناك شيء اسمه الاتحاد السوفياتي.
إتخذ قرار واضح بانتزاع أوكرانيا من روسيا وإخراجها من تحت هيمنتها. كان كافياً ألا تعترف الولايات المتحدة بنتيجة الانتخابات الرئاسية التي جرت في 21 تشرين الثاني الماضي كي تكون هناك إعادة للانتخابات في اشراف مجموعة كبيرة من المراقبين الدوليين. وكان وجود المراقبين الدوليين الذين جاء معظمهم من أوروبا بمثابة تحول أثمر عن فوز فكتور يوشنكو على المرشح المدعوم من روسيا فكتور يانوكوفيتش وهو رئيس الوزراء.
فجأة صار في الامكان الحديث عن الديموقراطية في أوكرانيا وصار نزول متظاهرين إلى الشارع لمنع يانوكوفيتش الذي ما زال رئيساً للوزراء من حضور جلسة للحكومة تعقد برئاسته أمراً طبيعياً وممارسة للديموقراطية. وقد انعقدت الجلسة الحكومية الأربعاء الماضي ولكن برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء، لم يعترض أحد في العالم باستثناء الناطق باسم يانوكوفيتش الذي لم يجد ما يقوله سوى أن الأخير لن يعترف بنتائج الانتخابات.
إعترف يانوكوفيتش بالنتائج أم لم يعترف، هذا ليس أمراً مهماً. المهم أن أميركا قررت، وفي القريب العاجل سيصبح فيكتور يوشنكو رئيساً لأوكرانيا بفضل الموقف الأميركي الذي جرّ موقفاً أوروبيا مؤيدا لنتائج الدورة الانتخابية الثانية التي أشرف عليها المراقبون الدوليون.
ما هي العبر التي يمكن استخلاصها من الأحداث التي شهدتها أوكرانيا والتي يمكن تلخيصها بانقلاب الجزء الأوروبي من البلاد على الجزء الذي يسيطر عليه الروس مباشرة والذي فيه وجود سكاني روسي؟.
ربما كانت العبرة الأولى ان روسيا لن تكون قادرة في أيّ وقت على لعب دور خارج حدودها، وعاجلاً ام آجلاً سيأتي الرئيس الأوكراني الجديد فكتور يوشنكو إلى موسكو وسيستقبله الرئيس فلاديمير بوتين بغية فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين. وستكون صفحة مبنية على ما قاله يوشنكو اخيرا عن ان بلاده حققت استقلالها قبل أربعة عشر عاماً أي عندما انفصلت عن الاتحاد السوفياتي لدى انهياره، لكنها لم تستعد بعد سيادتها وحريتها. اي ان الموضوع موضوع سيادة وحرية وليس موضوع استقلال واكتفاء برفع علم وارسال سفراء إلى الخارج.
قد تكون العبرة الثانية ان روسيا ليست قادرة على الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة حتى عندما يتعلق الأمر بالبلدان المحيطة بها، اضافة إلى ذلك عليها قبول القرار الأميركي باعتباره قدراً. وفي مرحلة لاحقة ستنضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي ولن تستطيع موسكو تحريك ساكن. وإذا عملت شيئاً غير التعاون مع الحكم الجديد في كييف، سيتحرك العالم ضدها في أماكن مختلفة. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، يمكن أن تعود القضية الشيشانية إلى الواجهة، وسيتذكر عندئذ العالم ان الجيش الروسي يرتكب فظاعات في الشيشان، في حين يعتبر الآن ان الشيشانيين ارهابيون وأن روسيا شريك في الحرب الأميركية على الإرهاب. هكذا وبكل بساطة يمكن ان تنقلب الآية. أوليس آرييل شارون "رجل سلام" في اعتقاد الرئيس بوش الابن الذي يجد ما يناسبه في اطلاق مثل هذه الصفة الكاذبة على رئيس الوزراء الاسرائيلي؟.
أما العبرة الثالثة فهي ان روسيا تستطيع ان تفعل ما يعجبها داخل اراضيها خصوصاً اذا كان ما يفعله الرئيس بوتين لا يضر بالشركات والمصالح الأميركية. فقبل فترة قصيرة لاحقت السلطات شركة "يوكوس" النفطية وزجت رئيسها في السجن، وفي مرحلة لاحقة وجدت الحكومة الروسية طريقة لاعادة تأميم الشركة بطريقة مقنعة، لم يصدر رد فعل اميركي قوي على ما يمكن وصفه بتراجع الحكومة الروسية عن مبدأ اقتصاد السوق. كل ما في الأمر ان بعض المعلقين الأميركيين اعتبروا ان ما حدث يسيء إلى روسيا نفسها اذ ان اي مستثمر اجنبي سيفكر طويلاً قبل الاقدام على اي توظيف فيها.
انها مجرد ثلاث عبر يمكن استخلاصها من الحدث الأوكراني بقي البلد موحداً أم لا. انها عبر تدل على ان أميركا مصممة على أن تكون امبراطورية حقيقية وعلى التحكم بالعالم على غرار ما تحكمت به الامبراطورية الرومانية. وكانت أوكرانيا مثلاً يحتذى به. وان دل المثل على شيء، فعلى ان نظرية السيادة المحدودة التي طبقها الاتحاد السوفياتي عندما كان مسيطرا على أوروبا الشرقية إن عبر تدخله في هنغاريا عام 1956 أو في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 او في بولندا في الثمانينات، وجدت الآن من يطبقها على نطاق أوسع يشمل العالم كله. انها نظرية تطبق بواسطة الجيوش أحياناً كما حصل في أفغانستان أو العراق... وبالمراقبين الدوليين في احيان أخرى كما في أوكرانيا!.