ثمة شيء يتحرك في غزة. ثمة إحساس بالأمل والفرص الجديدة، والاعتقاد بأن وقت التغيير قد حان. وثمة حوار جديد يشمل القوى الفلسطينية كلها، وتساؤل جدي حول جدوى العنف. وقد شاهدت كل ذلك في مناسبة أقامها في غزة زياد أبو عمرو، المشرع الفلسطيني ورئيس المجلس الفلسطيني للعلاقات الخارجية.
دعاني زياد أبو عمرو لمخاطبة مؤتمر حول عملية السلام. وكما علمت عند وصولي إلى غزة، فإنه قد دعا كذلك عددا من القادة البارزين لما يسمى، على سبيل التجميل «المعارضة الفلسطينية»، والتي تتكون من الجهاد الإسلامي وحماس والجبهة الشعبية، وكان هؤلاء جزءا من 200 ضيف حضروا ذلك المؤتمر.
في الجلسات الصباحية استمع المؤتمر إلى مارك أوتي، وأوليغ كالوغين، ممثلي الاتحاد الأوروبي وروسيا. واستمع بعد الظهيرة إلى نبيل شعث، وزير خارجية السلطة الفلسطينية وشخصي.
وقد استمعت، وحتى قبل أن أتحدث، إلى اعتراضات وجهت إلى أوتي وكالوغين، حول مواقف الولايات المتحدة. فقد وجهت إلى الولايات المتحدة اتهامات بأنها متحيزة، غير عابئة، وأنها جزء من العقاب الذي وجهته إسرائيل إلى الفلسطينيين والعذاب الذي تنزله بهم. ولكن وسط هذا السيل من الدعاوى والشكاوى والاتهامات، وجدت هذا الجمهور الفلسطيني نفسه يوجه الأسئلة إلى ممثلي الاتحاد الأوروبي وروسيا حول المسؤوليات الفلسطينية. وهي أسئلة يمكن تلخيصها في سؤال واحد: ماذا يتوجب علينا نحن الفلسطينيين أن نفعل الآن؟
وبوصفي ذلك الأجنبي الذي عمل مع ياسر عرفات، أكثر من أي أجنبي آخر، أستطيع أن أقول ان مسؤولية الفلسطينيين لم تكن مطلقا بندا في أجندته. فقد حول عرفات وضع الضحية إلى استراتيجية كاملة، وليست حالة مؤقتة. وكان الفلسطينيون بالنسبة إليه، في وضع من يطالب بالحقوق لا من يتحمل المسؤوليات. ولكن شخصا واحدا في غزة، من حضور ذلك المؤتمر، لم يعترض على أولئك الذين تساءلوا عن واجباتهم ومسؤولياتهم. ومع أن أغلب الملاحظات التي وجهت إلي، كانت حول مسؤولية أميركا في تصحيح الأخطاء التي ارتكبت بحق الفلسطينيين، إلا أن بعض الحضور ردد مقولتي حول أن الولايات المتحدة ستساعد الفلسطينيين في حالة واحدة فقط، وهي أن يتحملوا مسؤولياتهم، ويفوا بالتزاماتهم وخاصة في مجال الأمن. وعندما قلت انه لن توجد دولة فلسطينية نتيجة للعنف، وكنت أعرف أن دعاة ذلك العنف كانوا من بين الحضور، قال عدد من الفلسطينيين ان العنف كان خطأ وانه لن يحقق شيئا لشعبهم.
ما أثار انتباهي حول تلك النقاط، أن أولئك الذين عبروا عنها فعلوا ذلك من دون تردد. ومع أن المعارضة كانت جالسة هناك، ومع أن وقائع المؤتمر كانت تنقل عبر التلفزة إلى كل أنحاء الشرق الأوسط، إلا أن الإعلان بأن العنف ضد الإسرائيليين كان خطأ، لم يكن يجلب لصاحبه أي نوع من الإدانة أو يهدده بأي نوع من الخطر. كما أن القول بأن الفلسطينيين لديهم مسؤوليات ينبغي الوفاء بها، عومل على أساس أنه قول مشروع وليس نوعا من التجديف.
وعندما عبرت عن دهشتي في النهاية حول أن تعليقات الحضور حول العنف، أو إشاراتي إلى ضرورة نزع البنية التحتية للإرهاب، لم تثر ردودا عنيفة من قبل الجمهور، قال زياد أبوعمرو وسمير الشوا (رجل الأعمال الفلسطيني البارز): إن الفلسطينيين لديهم رغبة صادقة في وضع نهاية للعنف. وإنه لجدير بالانتباه، أن هذا كله يحدث لأن ياسر عرفات قد اختفى من المسرح. ففي وجوده كان هناك شلل عام، ليس بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فحسب، بل بين الفلسطينيين أنفسهم. وهي حقيقة يتفهمها الفلسطينيون أكثر من غيرهم. وإلا فكيف يمكن للمرء أن يتفهم هذا التغيير الكامل في المزاج الفلسطيني؟
قبل موت عرفات كانت نسبة الفلسطينيين الذين يحسون بالتفاؤل إزاء المستقبل 40%. النسبة وصلت الآن إلى 59%. قبل موت عرفات كانت شعبية حماس أعلى من فتح، بنسبة 32 إلى 29%. ولكن استطلاع الرأي الأخير أعطى فتح 46% وحماس 17%. وعلينا ألا نندهش لهذه النتائج. فعندما تتضاءل الآمال، فإن حماس وكل المنظمات المتطرفة ستزيد شعبيتها. أما عندما يكون هناك إحساس بالأمل والوعود، فإن الوطنيين العلمانيين في فتح هم الذين تناط بهم آمال الإنجاز.
«النجاح الذي حققته حماس في انتخابات المجالس البلدية لا يناقض هذه الحقيقة، فمثل هذه الانتخابات ضعيفة الدلالة على التيارات السياسية الكبرى، بينما هي قوية الدلالة على الولاءات المحلية للعائلة والعشيرة والقضايا المحلية».
ولكن الوعود ترفع التوقعات. فنوعية الحياة يجب أن تتحسن، والحصار الإسرائيلي يجب أن يزول، والمنافذ السياسية المؤدية إلى تحقيق التطلعات الوطنية تجب استعادتها جميعا.
ولسوء الحظ فإن شيئا واحدا من ذلك لا يمكن أن يتحقق من تلقاء نفسه. الإسرائيليون، الذين تراودهم الآمال، والمستعدون حاليا لمساعدة القيادة الفلسطينية، سيحكمون على محمود عباس، بعد انتخابه، على أساس ما يفعله لوقف الإرهاب وليس على أساس ما يقوله. ومن المرجح أن الفلسطينيين سيحاولون كسب منظمات مثل حماس والجهاد الإسلامي، بدلا عن مواجهتها. وهذا هو الذي يدفعهم إلى محاولة وقف إطلاق النار، وهو نفسه الذي سيدفع الإسرائيليين إلى التشكك، في أن وقف إطلاق النار لن يخدم غرضا، غير تمكين هذه المنظمات من الاستعداد لارتكاب جولات مقبلة من العنف والإرهاب.
وسيحتاج الطرفان إلى مساعدة الولايات المتحدة، لإيجاد أرضية مشتركة يحدد على أساسها، ما يدخل ضمن وقف إطلاق النار وما يخرج عنه، وما هي علاقته بالالتزامات الخاصة بالطرفين في «خريطة الطريق» إلى عملية السلام.
التحركات التي رأيتها في غزة، تكشف أن هناك فرصا جديدة بدأت تلوح في الأفق. ولكن الصواريخ التي تطلق يوميا على مدينة سيدروت الإسرائيلية وعلى مستوطنة غوش قطيف، والاستجابات الإسرائيلية لهذه الصواريخ، تذكر المرء بضعف هذه الفرص. وعندما كان محمود عباس رئيسا للوزراء عام 2003، فشل الفلسطينيون المؤمنون بإيقاف العنف والتعايش السلمي في المحافظة على التزاماتهم. وستتوفر لدعاة الإصلاح فرصة أخرى عما قريب، ولكنهم وإذا ما فشلوا هذه المرة، فلن تلوح لهم فرصة ثالثة.

* المنسق السابق لشؤون الشرق الأوسط في إدارتي كلينتون