سيصدر في منتصف هذا الشهر، تقرير التنمية البشرية العربية لسنة 2004 الذي يعنى بالإصلاح في العالم العربي وعنوانه "نحو الحرية في الوطن العربي". وهو الثالث الذي يصدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلا أن صدوره تأخر بسبب ظروف قيل انها مرتبطة بضغوط تعرضت لها الأمم المتحدة من جانب الولايات المتحدة حول ما انطوى عليه الجزء الأول من التقرير الذي يشخص مشكلات الحكم في العالم العربي، من عبارات قاسية حول السياسة الأميركية حيال العراق وفلسطين وانحيازها لإسرائيل.
هذا وقد ساهمت "النواقص" التي حدّدها تقريرا التنمية البشرية العربية الأولان لعامي 2002 و2003 في شرعنة طرح الولايات المتحدة الأميركية لمشروع "الشرق الأوسط الكبير". فالمشروع هذا يهدف ـ على حدّ زعمه ـ إلى تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة بناء على ما ورد في تقارير الإنماء البشري، ولا سيما في مجالات: تشجيع الديموقراطية والحرية والحكم الصالح ـ بناء مجتمع معرفي ـ توسيع الفرص الاقتصادية.
سأطرح هنا بعض الملاحظات بخصوص ما جاء في مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الأميركي وبخاصة ما يتعلق بالديموقراطية والحرية.
إن مشروع "الشرق الأوسط الكبير" على الورق وفي أدبيات السياسات الأميركية يبدو وكأنه يبشّر ببداية تحقق نهاية التاريخ على طريقة فرانسيس فوكوياما. فهكذا، نحن مدعوون لأن نحلم بالنهاية الوشيكة للدكتاتوريات وللايديولوجيات على أنواعها (القومية منها والشيوعية والعلمانية وغيرها)، ونحلم ببناء عالم ديموقراطي وحرّ حيث تجد فيه النزاعات حلولها بالمفاوضات والحوار، فيسود السلم الاجتماعي والسياسي أرجاء القارة الأرضية. ولِمَ لا نحلم أيضاً بالوفرة الاقتصادية التي ستتمتع بها كل الشعوب مع نهاية الفقر والجوع. وهكذا تصح رؤيا هانتغتون بأن صراع الحضارات ليس قدراً محتوماً.
إن مشروع "الشرق الأوسط الكبير" لو أُخذ بطروحاته المجرّدة، أي خارج الإطار السياسي والاقتصادي والثقافي العالمي الذي وضع فيه، وخارج آليات تطبيقاته على الأرض، لربما شكل دعوة بريئة وساذجة لإنماء المنطقة المذكورة وعلى أكثر من صعيد. فالمنطقة بحاجة إلى توسيع الفرص الاقتصادية.
إلا أن هذا المشروع، في الواقع، أي في آلية طرحه وتطبيقه وفي الغايات التي يرمي إلى تحقيقها، ليس ساذجاً كما يبدو، لا بل يمهد، من جهة لتثبيت دعائم الإمبراطورية الأميركية في الشرق الأوسط، ومن جهة ثانية لاحتواء المنطقة وتدجينها وجعلها أداة طيّعة في ماكينة العولمة، ومن جهة ثالثة، لتقويض كلّ ممانعة لدى شعوب الشرق الأوسط ولا سيما الأمة العربية بضرب الهوية الخاصة ثقافياً وحضارياً ودينياً واجتماعياً.
قد يطال مشروع "الشرق الأوسط الكبير" أول ما يطال، فكرة العروبة وأيديولوجيتها وتطلعاتها وديناميتها خاصة في ضمائر وقلوب وأماني الشعب العربي على مستوى قاعدته العريضة.
إن وجوب إشاعة الديموقراطية في الشرق الأوسط يحتكم إلى المرجعية الغربية واعتبارها المصدر الذي يعكس به معيار استقامة الخطاب الديموقراطي لعموم أبناء الجنس البشري، والجهة المختصة بإصدار اعتماد شهادات حسن السلوك لدول العالم الثالث، وهو مبدأ يجب التحفظ حياله، احتراماً للذات والتماساً للخصوصية الحضارية.
هل يتعيّن علينا أن نطبّق النموذج الغربي للديموقراطية بشكله المتبع هناك على الرغم من الاختلاف المحتمل بين طبيعة المجتمعات وتركيبتها؟، والسؤال يفترض أن ثمة فرقاً بين القيم الديموقراطية وبين النموذج أو الشكل الذي تطبّق به هذه القيم على صعيد الواقع. ونحن لا نناقش الالتزام بالقيمة ولكن نناقش الأسلوب الواجب اتباعه في تحقيق ذلك الالتزام حيث يفترض في هذه الحالة أن تتغير طبيعة النسيج الاجتماعي. وفي هذا الإطار، فإن صيغة الديموقراطية التي يختارها أي مجتمع لا يفترض أن توضع في إطار جامع، بل يجب أن تكون موضوع جماعة حيّة تتطوّر وتتجدّد وفق ظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إن صيغة الديموقراطية ليست سلعة تستورد من هذا البلد أو ذاك، إنما هي الإطار الذي يمارس فيه المواطنون حقوقهم وواجباتهم وفق ظروفهم المرحلية. من هنا يصعب الحديث عن مفهوم واحد للديموقراطية في العالم.
لا يمكن تحقيق ديموقراطية حقيقية، أي عادلة، ذات وجه دولي إلا بدرجة أولى ومركزية بحل النزاع العربي ـ الإسرائيلي على أساس قرارات الأمم المتحدة وبشكل يؤمن السلام العادل والشامل والدائم في المنطقة.. أما اليوم فالقاعدة الذهبية التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها هو الكيل بمكيالين في ما يتعلق بالنزاع العربي ـ الإسرائيلي حيث ان إسرائيل تضرب عرض الحائط بجميع القرارات والمواثيق الدولية وتصنّف مع ذلك بأنها دولة ديموقراطية على أمثل وجه، والفلسطينيون الضحية يوضعون في موضع الجلاد ويُنكر عليهم حقهم في الدفاع عن أرضهم وأرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم وتحول انتفاضتهم إلى عمل إرهابي.
أما في ما يتعلق بالمسألة العراقية فلا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة الأميركية التي دعمت صدام حسين في حربه ضد إيران وفي غض الطرف عمّا قام به من انتهاكات وجرائم حيال الشعب العراقي، هي نفسها التي تذرعت بإزالة أسلحة الدمار الشامل (غير الموجودة) لتحتل العراق بثرواته ولا سيما بنفطه وللسيطرة استراتيجياً على مفاصل العالم.
لا شيء يشير إلى أن أميركا ستنجح في حملتها "المسيانيّة" الجديدة. بل على العكس، فإن العداء للسياسة الأميركية يتعاظم يوماً بعد يوم، ليس فقط في العراق بل أيضاً في المنطقة كلها، الأمر الذي يفاقم الأصوليات ويجذّر المعارضات. والإدارة الأميركية الحالية، بإصرارها على التمسك بالحجج الكاذبة التي تدور حول أسلحة الدمار الشامل والإرهاب وغيرها، يزداد انتهاجها سياسة الهرب إلى الأمام. فإلى أين ستقودها تلك السياسة؟.