اذا استمر أمر الصحافة المصرية علي النحو الذي هي عليه الآن‏,‏ فأخشي ما أخشاه أن تكون المهنة بسبيلها للانقراض‏.‏ يشهد بذلك عام‏2004‏ الذي واصلت فيه الصحافة المصرية تراجعها علي نحو مدهش ومحزن‏.‏

‏(1)‏
واذا قال قائل إن الأمر ليس مقصورا علي الصحافة وحدها‏,‏ وأن بقية وسائل الإعلام المصرية الأخري ليست أفضل حالا‏,‏ وشأن التليفزيون خير شاهد‏,‏ فلن أختلف معه علي الاطلاق‏.‏ وقد أذهب الي أبعد‏,‏ زاعما بأن مسألة الريادة المصرية في الثقافة والاعلام اصبحت جزءا من التاريخ طويت صفحته‏.‏ ذلك ان الريادة لها شروط واستحقاقات‏,‏ بعضها يتعلق بالجغرافيا ـ الموقع اساسا ـ لكن الشروط لا تتوافر إلا اذا توافق معها التاريخ‏.‏ والريادة المصرية حين كانت‏,‏ فإنها تحققت بفعل ذلك التوافق واستدامته حينا من الدهر‏,‏ فيما اعتبر مزاوجة بين المكان والمكانة‏,‏ إذا استخدمنا تعبير الدكتور جمال حمدان‏.‏ غير أن هناك من تصور أن الريادة صارت وقفا علي مصر‏,‏ ناسين شروطها واستحقاقاتها‏,‏ وغير مدركين ان التاريخ حين انفصل عن الجغرافيا ولم يواكبها في فرادتها‏,‏ ومن ثم انفك الارتباط بين المكان والمكانة‏,‏ فقدت مصر موقع الريادة في هذه الساحة‏,‏ وانتقل الموقع او توزع علي غيرها‏.‏
أوافق ايضا من يقول إن الصحافة العالمية لها ازمتها المتمثلة في تراجع أعداد القراء‏,‏ ونقص الموارد في ظل المنافسة الجبارة من جانب التليفزيون ووسائل الاتصال الأخري‏.‏ وأن صراع البقاء محتدم بين الصحف البريطانية‏,‏ وان الأزمة المالية هزت أركان الصحف الفرنسية الكبيرة‏,‏ لوموند وفيجارو ولوباريزيان‏,‏ وان مصداقية الصحف الامريكية تراجعت بسبب اشتراك الإعلام في خداع القراء مما اضطر صحيفتين كبيرتين مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز إلي الاعتذار للقراء‏.‏
وإذ لا أجادل في ان كلا له أزمته‏,‏ فإنني أضيف بأن الفرق بيننا وبينهم أنهم يفتحون ملفاتهم ويطهرون جراحهم أمام الملأ‏,‏ ثم يواصلون السير‏,‏ في حين أننا نحكم إغلاق الملفات ونخفي الجراح وننكرها‏,‏ ولا تهتز لدينا شعرة إذا ما تعثر السير وانصرف الملأ عن المطبوعة‏.‏ ثم ان لديهم رأيا عاما معترفا بحقه في المعرفة‏,‏ في حين ان الرأي العام عندنا ليس طرفا معترفا به في العديد من أمور الشأن العام‏.‏
في الوقت ذاته‏,‏ أدري أن ملف الصحافة المصرية متخم بالعناوين والفصول المثيرة للجدل‏,‏ وأن التراجع في المهنة ليس وليد العام‏,‏ ولكن ذلك العام الذي انقضي ليس سوي محطة او علامة في منعطف انكسار بدا مع تأميم الصحافة في عام‏61.‏ وهو الاجراء الذي بسط يد السلطة علي المؤسسات الصحفية‏,‏ وغلب السياسة علي الحرفة‏.‏
لست هنا بصدد الخوض في عناوين الملف كلها‏,‏ ولكني بعد ان تعرضت لبعض تلك العناوين في كتابات سابقة‏,‏ معني هذه المرة بالصحافة القومية التي تضم المؤسسات الأم‏.‏ ليس فقط لأنني أعرف بها بحكم انخراطي فيها منذ خمسة وأربعين عاما‏,‏ ولكن ايضا لأن‏85%‏ من القراء يتعاملون معها‏,‏ في حين ان الصحف الأخري‏,‏ المستقلة والحزبية اليومية منها والاسبوعية‏,‏ لاتستحوذ إلا علي‏15%‏ من القراء فقط‏.(‏ للعلم فإن متوسط مبيعات الصحف يوميا في مصر في حدود مليون نسخة فقط‏).‏
كذلك لست أدعي أنني بصدد الحديث عن كل ملف الصحف القومية‏,‏ الذي يعرف المشتغلون بالمهنة كم هو شائك وملغوم‏,‏ لكنني معني فقط بدائرة محددة نسبيا هي المتعلقة بالحرفة أو الصنعة‏,‏ التي هي الأساس الذي يقوم عليها البنيان كله‏.‏

‏(2)‏
رغم ذلك الحرص‏,‏ وجدت بصمات‏(‏ السياسة‏)‏ شديدة الوضوح في مختلف جوانب أزمة الحرفة‏.‏ كانت السياسة هناك حين تم تأميم الصحف وأصبحت القيادات الصحفية انتخاب السلطة وليست انتخاب المجتمع‏,‏ مع ما استصحبه ذلك من انعكاسات سبقت الاشارة إليها‏.‏ غير انني وجدت السياسة ايضا طرفا اصيلا في جانب آخر من جوانب أزمة المهنة‏.‏ ذلك ان الفراغ السياسي والثقافي الراهن أغلق الأبواب في وجوه الراغبين في التواصل مع الرأي العام او الحريصين علي إثبات الذات في المجتمع‏,‏ ولم يبق أمام هؤلاء وهؤلاء من سبيل لتحقيق مرادهم سوي منفذ واحد هو الإعلام‏,‏ لذلك تسابق كثيرون عليه حتي أصبحت شرعية الشخصية العامة لا تكتسب من أدائها السياسي أو إنجازها العلمي والثقافي‏,‏ وإنما من مدي حضورها في وسائل الإعلام‏.‏ الأمر مختلف في الديمقراطيات التي نعرفها‏.‏ ذلك أن حيوية المجتمع تستصحب تشكيلا للأحزاب وتمثيلا للجماهير في المجالس النيابية‏.‏ كما تفرز منتديات للمثقفين والنقابيين وغير ذلك من الجمعيات والمنظمات الأهلية‏,‏ وممارسات هؤلاء وأنشطتهم في مختلف المجالات تحقق لهم المشاركة في العمل العام وإثبات الذات‏,‏ كما تلفت الأنظار اليهم‏,‏ وتكسبهم شرعية التمثيل والحضور‏,‏ لكن حين يغيب ذلك كله‏,‏ وتتحول المؤسسات إلي هياكل مفرغة من المضمون أو عاجزة عن الحركة‏,‏ فإن الاعلام يصبح المنفذ الوحيد لاثبات الحضور‏,‏ خصوصا أن فيه إغراء آخر هو أنه إثبات للحضور بالمجان‏.‏ بمعني أن كل المطلوب له هو النجاح في الوصول الي صاحب القرار‏,‏ والاستعاضة عن الفعل والانجاز بالكلام والإنشاء‏.‏
لقد أصبح الشعار الضمني الرائج في العديد من الأوساط هو‏:‏ أنا أنشر أو أنا أظهر علي الشاشة‏,‏ إذن فأنا موجود‏.‏ ولأن الظهور علي الشاشة لا يستغرق سوي ثوان محدودة‏,‏ ويتطلب اثبات الحضور من خلالها تكرارا وإلحاحا قد لا يتوافر دائما‏,‏ لذلك صار غاية المراد بالنسبة لأصحاب الطموح أيا كانت مؤهلاتهم أن يفوز الواحد منهم بعمود في جريدة‏,‏ أو ينجح في احتلال موقع بصفحات الرأي‏.‏ ولعلي لا أذيع سرا إذا قلت إن بعض الشخصيات العامة لم تعرف ولم تشغل مواقعها‏,‏ إلا حين ظهرت اسماؤها وصورها في الصحف والمجلات السيارة‏.‏
إن المرء ليصاب بالذهول حين يعرف أسماء المسئولين الذين يلحون علي أن تكون لهم مقالات في الصحف القومية‏.‏ وفي حالات أعرفها فإن منهم من طلب ذلك كتابة من بعض رؤساء التحرير‏.‏ كما يستبد بي الحزن حين أري اساتذة أجلاء لهم انتاجهم العلمي المقدر في تخصصاتهم‏,‏ الأمر الذي يضعهم في الصف الأول من كبار العلماء‏,‏ يقدمون أنفسهم بحسبانهم كتابا في هذه الجريدة أو تلك‏.‏
إذا أضفت إلي ما سبق عنصر تغليب السياسة علي الحرفة والولاء علي الموهبة‏,‏ فستدرك حجم أزمة الصحافة‏,‏ التي أصبحت فضلا عن ذلك ساحة جذب للهواة وأصحاب الطموح المشروع أو غير المشروع من المنتمين الي مختلف المهن والحرف‏,‏ حتي ليدهش المرء من كم المحامين والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات وغيرهم ممن باتت تزخر الصحف باسمائهم‏.‏ وقد استشعرت غيرة ذات مرة حين وجدت أن نقابة الفنانين تتصدي للدفاع عن المهنة‏,‏ داعية الي وضع ضوابط لمشاركة المطربين أو الراقصات المستجلبات من أوروبا الشرقية لإحياء الحفلات العامة‏.‏ وقلت لماذا تظل أبواب مهنة الصحافة وحدها مشرعة بغير ضابط ولا رابط‏,‏ أمام كل من هب ودب؟
وحتي لا يلتبس الأمر علي أحد‏,‏ فليس لدي اعتراض علي مبدأ كتابة غير المنتمين الي المهنة في الصحف‏,‏ لأن الموهوبين من أهل الاختصاص في كل مجال يخاطبون الرأي العام في الصحف العالمية المحترمة‏,‏ التي تستكتبهم في بعض الأحيان‏.‏ لكن تحفظي ينصب علي أمرين‏,‏ الأول هو حرص أولئك الهواة من أصحاب المهن الأخري علي التحول الي صحفيين وكتاب محترفين‏,‏ مع استمرار ممارسة مهنهم الأخري‏.‏ والثاني أن التجربة أثبتت أن أكثر هؤلاء الراغبين في الاحتراف من غير الموهوبين‏,‏ وبعضهم لهم مآربهم الخاصة‏,‏ ويستخدمون الصحف مدخلا للوصول إليها‏.‏

‏(3)‏
من مفارقات الأقدار وسخرياتها أنه في حين تتعرض الصحافة لهجوم واسع من جانب الهواة‏,‏ فإن عددا غير قليل من المحترفين يهجرونها الي غيرها‏.‏ هذه الظاهرة برزت في العام الماضي بوجه أخص‏,‏ حيث وجدنا أن اعدادا متزايدة من الصحفيين التحقوا بوظائف الحكومة‏.‏ صاروا معاونين ومستشارين بصورة رسمية لبعض الوزراء‏,‏ وموظفين مرموقين في بعض مؤسسات الدولة‏(‏ بعض رجال الأعمال سبقوا الي ذلك دون اعلان‏)‏ ـ واكتشفت لاحقا أن عددا قليلا من مندوبي الصحف في الوزارات ضموا الي الجهاز الاعلامي الخاص بتلك الوزارات‏,‏ الأمر الذي ألغي استقلال أولئك الصحفيين ومن ثم أخرجهم عمليا من المهنة‏.‏
وليس مفهوما حتي الآن كيف قبل هذا المبدأ من أساسه‏,‏ أن يتحول الصحفي بصورة رسمية مندوبا للوزارة في جريدة وليس العكس‏.‏ وكانت تلك مزحة نتندر بها في الماضي‏,‏ ونحن نغمر زملاءنا الذين أصبحوا يجاملون الوزارات والوزراء الذين عملوا معهم ولكن دارت دورة الزمن وتحولت المزحة الي حقيقة مقننة‏,‏ ومصدر للتباري وليس سببا للغمز‏!‏
جيلنا كان يعتبر اشتغال الصحفي بالإعلام نوعا من الخيانة للمهنة والتفريط فيها‏,‏ وكنا نقول في الستينيات والسبعينيات عن الذين يجلبون الإعلانات أو يشتركون في جلبها إنهم باعوا أنفسهم للشركات‏.‏ ثم عشنا زمانا أصبح بعض رؤساء التحرير يطلبون فيه من المحررين جلب الإعلانات‏,‏ ووجدنا بعض المحررين يتنافسون ويتعاركون علي رجال الأعمال وشركاتهم‏.‏
الوضع المستجد أمعن في الخطيئة المهنية‏,‏ لأنه فتح الباب لشراء الصحفي بالكامل‏,‏ بعد أن كانت مهمته الإعلانية تجعله يتخلي عن مهنته بعض الوقت‏.‏ ثم أن عمل هذا الأخير كان يظل محسوبا ضمن دائرة الإعلان‏,‏ في حين أن الصحفي الموظف أصبح يعبر عن ولائه من خلال التحرير أيضا‏,‏ حتي أصبحت أخبار وتقارير عديدة تنشر تسويقا للوزير أو الوزارة‏,‏ وليس فيها شيء يهم القاريء الذي يدفع ثمن الجريدة‏,‏ ولا يعلم أن بعض ما يقرؤه في صفحات التحرير مدفوع الثمن من جانب بعض المسئولين فضلا عن رجال الأعمال‏.‏
وإذ كنا نعتبر رئيس التحرير منصبا مرموقا أعلي وأرفع من الوزير‏,‏ فيما يخص تشكيل الرأي العام علي الأقل‏,‏ حتي عشنا زمانا كان مقال رئيس التحرير يحرك الحكومة أو يسقط الوزارة‏,‏ فإن الواحد منا لا يكاد يصدق أن الأمور أنقلبت رأسا علي عقب‏.‏
من المفارقات أن خطابنا الإعلامي والسياسي شهر بالعهد الملكي البائد لأنه كان يدفع مصاريف سرية لبعض الصحفيين‏.‏ كما أننا فضحنا نفرا من أصحاب شركات توظيف الأموال‏.‏ لأنهم كانوا يشترون بعض العناصر من خلال ما سمي بكشوف البركة‏.‏ ولكن تلك العطايا التي كانت تدفع في السر جري تقنينها الآن‏,‏ الأمر الذي أضفي عليها شرعية طهرتها من التلوث والإثم‏.‏ إذ لم يعد المسئول مضطرا لأن يقدم رشوة في السر للصحفي‏,‏ لكي يشتري سكوته أو يشتري قلمه‏,‏ لأنه بات بمقدوره أن يعين الصحفي براتب شهري‏,‏ فيشتري مجلة كاملة أو يوظف صفحة كاملة لحسابه‏,‏ ويغدو ذلك أمرا عاديا وزواجا شرعيا بين السلطة والصحافة‏,‏ يزف إلي القراء في خبر تنشره الصحف القومية‏,‏ باعتباره حدثا عاديا وعملا شريفا لا غضاضة في إشهاره والإعلان عنه‏.‏
أعتبرت هذا الوضع ذات مرة بأنه بمثابة إخصاء للصحفي يعجزه عن القيام بمهمته‏,‏ وسمعت واحدا من جيلي صار بين مسئولي إحدي الصحف القومية‏,‏ فقال إن ذلك حكم يتجاهل حقائق الواقع‏.‏ واستطرد قائلا إن المؤسسة التي يعمل بها تضم كذا ألف عامل وعاملة‏,‏ وهم يحتاجون الي مرتبات وعلاوات وأرباح‏,‏ وفي ظروف الجدب التي تعيشها السوق في السنوات الأخيرة‏,‏ كان مفيدا للغاية أن يستخدم المحررون نفوذهم في جلب إعلانات من الوزارات والمؤسسات المختلفة‏.‏ وضرب المسئول مثلا بنماذج للانجازات التي حققها المحررون والمحررات حين استخدموا نفوذهم‏,‏ فقال إن هذه الزميلة تأتي لنا بإعلانات قيمتها أربعة ملايين جنيه سنويا‏,‏ وذلك الزميل يضيف الي خزينة المؤسسة ثلاثة ملايين‏,‏ والثالث يأتي للخزينة بمليونين ونصف مليون والرابع جاء بثلاثة ملايين‏..‏ وهكذا حينئذ قلت له أن ثمة تضخما غير مبرر في العمالة له أسبابة التي تعرفها وليست من مقتضيات العمل‏,‏ وهذا خطأ أوصل المؤسسة الي المأزق الذي باتت عليه‏.‏ ثم إن هذا المسلك الذي لجأتم اليه ربما أحيا المؤسسة ولكنه يميت المهنة‏,‏ ففوجئت به يقول‏:‏ أنت تعرف أنه لم تعد هناك مهنة‏,‏ ومع ذلك فلا مفر من الحفاظ علي المؤسسة‏.‏
الصحفيون الموظفون يشكلون أبرز تجليات هجرة المحترفين للمهنة‏,‏ ولكن لهذه الهجرة تجليا آخر يتمثل في التحاق أعداد منهم بالقنوات التليفزيونية للعمل كمقدمي برامج ومعدين‏,‏ وأغلبهم يحرصون في إعلانات تلك البرامج علي وضع صفتهم الأصلية مع اسمائهم‏,‏ فيشير الواحد منهم إلي أنه كاتب صحفي وقيل لي إن هذه الاشارة تضفي اهمية علي البرنامج‏,‏ الأمر الذي يعتبر المهنة مجرد جواز مرور استفاد منه لاداء مهمته الأخري‏.‏ وسواء كان الدافع إلي ذلك هو تحسين مورد الدخل أو التعلق بأهداب النجومية‏,‏ فلا مفر من الإعتراف بأن الصحفي في الحالتين يهجر مهنته إلي غيرها‏.‏

‏(4)‏
لا أخفي أنني أصبحت أصاب بالغم والاكتئاب كلما فتحت صحف الصباح‏,‏ ووقعت عيناي علي ذلك الكم الهائل من الاعلانات المكتوبة بالعامية‏.‏ وهي ظاهرة استشرت في عام‏2004,‏ وعكست أمرين هما‏:‏ تنامي قوة ونفوذ رجال الأعمال في الحياة العامة‏,‏ مما مكنهم من فرض لغة السوق علي الصحف‏.‏ ثم ضعف الصحف واستعدادها المفرط للاستجابة لتلك الضغوط‏.‏ وهناك عنصر آخر يكمن في الخلفية لا يغفل دوره‏,‏ ذلك أن زحف العامية علي ذلك النحو يعبر عن تراجع مشهود في الاعتزاز بالذات‏,‏ هو من نتاج الضعف الذي أصاب أواصر الانتماء العربي وقوة رياح التغريب التي ضربت المجتمع‏.‏ وهو ما أدركه ابن حزم في مقولته النفيسة‏:‏ إن اعوجاج اللسان علامة علي اعوجاج الحال‏.‏
لقد كانت الصحف يوما ما مطبوعات ينصح بقراءتها لتعلم اللغة وتذوق الأدب‏,‏ وبعدما انهارت الفصحي في صحف زماننا وزحفت العامية علي صفحاتها‏,‏ فإنني اخشي أن يتفاقم الأمر‏,‏ بحيث ينصح الآباء ابناءهم بتجنب قراءة الصحف حفاظا علي سلامة لغتهم‏,‏ ناهيك عن أن بعضها ــ في الصحف الخاصة تحديدا ــ أصبح الآن مصدرا لتعليم قلة الأدب‏.‏
أذكر بظاهرة الاختراق التي تحدثت عنها في الاسبوع الماضي‏,‏ واضيف ان مهنة الصحافة في مصر إذا لم تستنقذ من عوامل الوهن التي زحفت عليها فإن سنة الحياة وقوانين البقاء لن تستثنيها وستصبح مهددة حقا بالانقراض‏,‏ أو الموت السريري في أحسن الأحوال‏.‏