السياسيون والمنجمون هم الذين تصدروا للحديث عن توقعات العام الميلادي الجديد الذي أهل علينا عام 2005 الميلادي على شاشات التلفزيون العربي، وغاب عن الحديث في معظم محطاتنا التلفزيونية العربية التي ملأت الفضاء، البحاثة والدارسون. لا اعرف أية قيمة يحملها أهل التنجيم في تحديد مصير العالم في العام المقبل، وخاصة العربي، كما أني لست على يقين أن بعض المحلليين من الصحافيين قادرون على رسم ما سيقع في المستقبل.
ولقد قرأت في وقت سابق قولا ما زلت أتذكره وهو أن (الصحافي «في أحسن أحواله» تلميذ يتحول إلى أستاذ كل يوم) إلا أن الظاهرة التي اجتاحت برامجنا التلفزيونية العربية في الأسبوع الماضي، قبيل انبلاج عام ميلادي جديد، تنبئ عن عدد من المؤشرات.
الأول أننا كعرب ومسلمين، ورغم كل الحديث المتدفق، حول عدم وجوب تبعية الغرب، ومحاولات الانفكاك من ربقته سياسيا واقتصاديا وثقافيا كما يطالب كثيرون، ما زلنا مقيدين معه بسلاسل من القيود، بعضها ظاهر بين، وبعضها مستتر حيي.
وظاهرة الاحتفال بالعيد السنوي لدخول السنة الميلادية بين وظاهر للكافة، وليس الاحتفال هنا فقط بإقامة السهرات وانتظار العام الجديد في وقت محدد من منتصف الليل، والاستبشار به أو التطير منه، فذلك قد منع في بعض بلادنا.
وقام في بلاد أخرى. ولكن الاحتفال الأكثر وضوحا هو الذي أقامته وسائلنا الإعلامية على اختلافها، فالصحف أفردت صفحات عن أحداث العالم في العام الماضي، وتوقعات العام الجديد، وكذلك محطات التلفزيون، كان بعضها أكثر تناولا وأعمق بُعدا من البعض الآخر، ولكنها أبت إلا وأن تعزف تقريبا نفس المعزوفة.
الثاني وهو نابع من الملاحظة الأولى إن (العولمة) تضطرب بشدة في مجتمعاتنا، ولكن بعضنا يفضل أن لا يرى نتائجها أو آثارها ويضرب عنها صفحا، لذلك قررت الطبيعة أن تذكرنا بها في آخر السنة الميلادية، فجاء الإعصار البحري الهائل نتيجة زلازل في المحيط الهندي (تسونامي) لا ليقضي على أكثر من مئة وعشرين ألف قتيل جُلهم من الآسيويين، وبل وأيضا ليقتل أكثر من خمسة آلاف (أوروبي) بعضهم من المشاهير.
وهو عدد يناهز تقريبا ضعف من قُتل في الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، والذي أثار كل ما أثار من حروب وتشنج دولي ما زلنا نعاني من آثاره.
اذن الكوارث الطبيعية تذكرنا بأن هذا العالم اليوم هو عالم واحد، ولو فكرنا عقليا بأن مثل هذه الكارثة قد حدثت منذ خمسين عاما فقط، فلن يكون هناك هذا العدد الكبير من الأوربيين من ضحاياها، فالمتشمسون على السواحل الآسيوية في هذا الوقت من العام من الأوروبيين هم نتاج مجتمع الوفرة الأوروبي مقرونا بسرعة الاتصال التي هيأتها وسائل الاتصال الحديثة!
انها العولمة أو احد مظاهرها التي يبدو أن الطبيعة تريد بطريقتها أن تذكرنا بها، والتي أسقطت التقسيم القديم، شرق وغرب أو شمال وجنوب.
ثالثا استضافة المنجمين وضاربي الودع في محطات التلفزيون العربية كي (يتنبؤا) لنا بما سوف يحدث في العام الجديد، وقد شاهدت أحدهم لا يتورع، وعلى رؤوس الأشهاد، وبلسان ذرب مطواع، بالقول ان (فلان) رئيس دولة (كذا) سوف يقتل في الشهر (الفلاني) وأن الدولة العربية (كذا) سوف يحدث فيها ذلك وهذا من الأحداث.
أما إحدى قارئات النجوم فقد ظهرت على التلفاز أكثر من ساعة، لتقول لنا كم عدد الطائرات التي سوف تسقط من السماء، وعدد الحروب التي سوف تندلع، والكوارث التي سوف تحل بالإنسان، كل ذلك وهي تبتسم للمشاهد، وكأنها تخبره بخبر جد سعيد! كل ذاك هي رسائل مولودة في رحم الجهل.
ولم تقدم لنا ولا وسيلة إعلام شيئاً عقلانيا يرجح أعمال العقل، مثل مراجعة ما تنبئ به أمثال هؤلاء في العام الماضي من كوارث وحروب وقتل وحرائق ودمار، حتى نعرف، نحن كمشاهدين مسلوبي الإرادة، نسبة نجاح أو فشل مثل تلك التوقعات التي تطلق في الهواء.
هذا أمر يصل بنا إلى ثنائية عجيبة، وهي أن ( العقل) العربي يرغب بل يعشق أن ينظر إلى المستقبل (نظرة) غير علمية فيها الكثير من التمني والتنجيم، حيث من تابع وسائل إعلام أخرى وخاصة غربية، افتقد مثل هذا (التنجيم) في رصد المتغيرات العالمية، فحركة زماننا لا تعتمد على التنجيم، بقدر اعتمادها على العلم الموضوعي والمعلومات الموثقة، ثم من المسؤول عن فشل أو عدم حدوث مثل هذه التوقعات (الخرافية).
هنا يبرز سؤال أصيل في ثقافتنا العربية له علاقة (بالمسؤولية) فلا محطات التلفزة، ولا غيرها من السادة (المنجمين أو السيدات المنجمات) مسؤول عن إهدار الكلام والتوقعات على علاتها، والمحاسبة؟ أية محاسبة! في الحياة الثانية إنشاء الله!
ثالثة الأثافي في هذا الموضوع الذي احسبه من الموضوعات المهمة، هو دور الإعلام، باشكاله المختلفة، في إضافة وعى سلبي جديد أو في تزييف الوعي القائم، لدى ملايين من البشر العرب المتسمرين أمام شاشات التلفزيون.
وكثير منهم يعتقد أن هذا الجهاز (لا ينطق عن هوى) والنتيجة أننا ندري أو لا ندري بقصد أو دون قصد، نزيد من تخلف الوعي باعتماد بعض وسائل إعلامنا على (التنجيم) لمعرفة مسارات الأوضاع السياسية والاقتصادية في بلادنا، وهو من الخطورة ليصل إلى تحديد آجال الناس، ومن سيقتل من الزعماء ومن سيطول به العمر.
وكم طائرة سوف تسقط من السماء وأين سوف تسقط أيضا، بل وكيف ستحل القضية الفلسطينية ! إذا أضفنا إلى ذلك الافتراض إن من يقرأ ربما يتحصن بشيء من وعي القراءة إن وجد، أما من يشاهد دون إن تكون لديه خلفية القراءة، يصبح ضحية جاهزة لما يسمع.
كل هذا يقودنا إلى خلق وعي (متقاعد) عن العمل يصب في الحتميات القاتلة، فما دام الشيء سوف يحدث، فان الإنسان ليس له خيار في ذلك، فلندع، إذا كل ما نستطيع أن نقوم به، وننتظر من (النجوم) أن تحل لنا مشكلاتنا المعقدة!