حازم صاغيّة: من غير المألوف أن تتحول الضاحية، وهي تعريفاً ملحق بمدينة، الصانع الأبرز لسياسة بيروت، وأحد الصنّاع البارزين لسياسات الشرق الأوسط. والحال ان بعض من عاشوا الثمانينات اللبنانية انتابهم ان هناك ضاحية وليست هناك مدينة. ذاك أن الأولى راحت تستقطب ضوء العالم فيما كان العتم يلفّ الثانية ويثقل عليها.
وهذا ما حصل على شكل تحوّلٍ متعدد المصادر ألّف، في مجمله، قصة كثيرة الفصول يأخذ واحدها بتلابيب الثاني. ولأنها قصة بشر فعليين لم يخرجوا من رأس مؤلّف، لازم التشويقُ الذي تحتويه القلقَ على أبطالها ومعالمها وأمكنتها، وهو تماماً ما تفعله أفلام الرعب.
والبشر الفعليون هؤلاء كانوا، ذات مرة، أناساً عاديين، يعيشون كما سائر الناس في لبنان التقليدي. يومها لم تكن تطاردهم وكالات الأنباء ولا كانوا يتصدّرون الصحف فيما سها عنهم الجواسيس، الاقليميون منهم والدوليون، وواضعو الخطط على أنواعها. وكانت بيروت، بما فيها ليالي الإنس الشهيرة في الزيتونة، تستهوي شبانهم العازفين عن القضايا الكبرى، الباحثين عن الحياة أنّى تيّسرت لهم.
حدث ذلك قبل أن يبدأ الزمن البطولي في الضاحية فيما البطولة، في معظم الشرق الأوسط، تباشر طيّ أعلامها.
ففي حقبة لبنان الاستقلالية، ما بين 1943 و1975، قامت السياسة في تلك البقعة، جنوب العاصمة، على الانقسامات نفسها التي في باقي البلد، لا سيما جبله ذي الأكثرية المسيحية. والضاحية، بين ستينات القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى، كانت جزءاً من متصرفية جبل لبنان، جزءاً لا تزال تفصله عن بيروت نقطة «الدخولية» التي مكثت تذكيراً بمحطة الانتقال حيث تُدفع رسوم الدخول والخروج. فمتى انقسم الجبل دستوريين وكتلويين انقسمت الضاحية هكذا. وإذا انشطرت، على ما حصل في الخمسينات، مؤيدين للرئيس كميل شمعون ومناهضين، كان هذا هو الانشطار الذي يشق اللبنانيين كلهم.
وتبعاً لذاكرة غير موغلة في التذكّر، خضع العقدان اللذان انتهيا باندلاع الحرب في 1975 لنزاع كان رمزاه المحاميين محمود عمّار وخضر حركة، توالي كلاً منهما عائلات على هذه الدرجة من التماسك أو تلك، وإلا فأجبابٌ في عائلات ضرب الوهن عصبياتها أو فرّقها تعدد حارات الإقامة والسكن.
وكان هناك مسيحيو الضاحية، ومعظمهم موارنة، ممن عدّوا ثلث سكانها، فنشأ تجاوُر هادىء ومهذّب، بينهم وبين الشيعة، تتقدم المجاملة فيه على المودة. فقد راعى كل من الطرفين حساسيات الآخر إلا أن العلاقة لم ترق الى تداخُل وثيق. وربما صح القول إن الخمسينات أضعفتها، ولم يكن قد اشتد ساعدها بعد، على إيقاع التوتر الذي خلّفه الاحتكاك الناصري -الشمعوني. لكن الاقتصاد لم يطابق السياسة دوماً. فمن كانوا من السكان الشيعة يعيشون على الزراعة، درجوا على تسويق منتوجهم إما في بيروت وإلا فلدى أغنياء مسيحيين في حارة حريك. وكان أهل الحارة الأغنى والأوفر تعلماً والأشد إقبالاً على الوظائف وامتلاكاً للبيوت الجميلة، لا بين المسيحيين وحدهم بل قياساً بعموم سكان الضاحية.
واتسع المسرح، منذ 1948، للاعب جديد راح دوره يتعاظم في العقود التالية. فمع قيام اسرائيل أنشىء مخيم للاجئين فلسطينيين نزحوا من ترشيحا والكويكات وكابري. وسريعاً ما أحدث هؤلاء تطوراً مهماً سبق تطورات أخرى لم تقلّ أهمية. فهم مَن نقل الى الضاحية «المقهى» التي غدت مكاناً غير مسبوق للتداول في الشأن العام، والشأن العام يومها كانت تجتاحه القضايا التي أثارتها الناصرية ومسائل الاستقلال والتحرر من كل نوع. غير أن لاجئين آخرين، مدينيين وأيسر حالاً، بثّوا في العلاقات الاقتصادية ما لم تعهده قبلاً، مُوسّعين نطاق التداول الرأسمالي والحديث. فهؤلاء، وهم عشرات العائلات القادمة من عكا وحيفا ويافا، استأجروا بيوتاً ظن مالكوها أن لا وظيفة للمنازل غير سكنهم فيها. وتهافت أهل برج البراجنة على تأجير الشقق فيما شُرع، للمرة الأولى، بتقسيم غرفها وإعادة تأطير العالم الحميم والمباشر.
وإذ اتجه اللاجئون، الآتون من المدن والنازلون شققاً مُستأجَرة، الى العاصمة، بائعين مهاراتهم في قطاعاتها المالية والخدمية النامية عهدذاك، عمل أبناء المخيمات في مصانع البسكويت والنسيج في كفرشيما والحدث المسيحيتين، الى الشرق، وانضوى بعضهم في العمالة الزراعية القليلة التطلّب للكفاءة.
والحال أن الاحتكاك بالفلسطينيين السنّة لم يُثر، لدى الشيعة، أية حساسية مذهبية تُذكر، بل ربما زاد التعاطف مع قضيتهم تبعاً للتعاطف مع بؤس سكان المخيم. فالعدد كان قليلاً والشوكة كانت مكسورة، أما انخراطهم في السياسة المحلية فكان مما لا يجرؤ على تخيّله الخيال الخصب.
وهذا ما تغير في وقت لاحق. فعندما تسلمت المقاومة الفلسطينية، أواخر الستينات، راية الراديكالية القومية من الناصرية، كان للأمر أثره البادي على الضاحية، وكان مسيحيوها أول المتلقّين. فقد بدأ التشنج يسم الصلة التي تربطهم بشيعتها، كما جعلت تختل المعادلات التقليدية التي نهضت سياستها عليها. وإذ تحالف الشيعة، ولم يكونوا قد امتلكوا بعد أداتهم السياسية والحزبية، مع الفلسطينيين، شارف خوف المسيحيين على أن يصير خُوافاً. فما ان انطلقت نشاطات التدريب في مخيم البرج، حتى رأوا في الشبان المتطوعين، من الضاحية وغير الضاحية، نواة جيش بديل يهددهم ويقوّض عيشهم المألوف.
وجاءت اشتباكات أيار (مايو) 1973 بين المقاومة الفلسطينية والجيش اللبناني تمريناً أولياً على الخوف المسيحي، لكنها حملت للشيعة أنفسهم نُذُراً مقلقة. فما ان اندلعت حرب السنتين (1975-77)، وكانت شرارتها اشتباكات المسلحين الفلسطينيين والشيعة في الشيّاح مع المسلحين المسيحيين في عين الرمانة، حتى كبرت بقع الزيت المسموم. فإذ تولى المهمات القتالية الأساسية، هجوماً ودفاعاً، مقاتلو «فتح» والجبهات الأخرى، اختفى مخفر الدرك من الضاحية وتعطل القضاء وعمّت سرقة الماء والكهرباء، كما نشأت دكاكين مرتجلة ومحال عشوائية فيما تمدد البناء غير الشرعي المُقام على أراضي الغير. وانكمشت، الى ذلك، قدرة العائلات وأعيانها على ممارسة التحكيم الأهلي فحل، بالتالي، الفراغ الضخم الباحث عمّن يملأه.
والواقع ان الأحزاب اللبنانية التي حالفت الفلسطينيين واجتمعت تحت صيغة «الحركة الوطنية»، لم تتحول مرةً قوةً يُعتَدّ بها في الضاحية. فقد وُجد دائماً شيوعيون وبعثيون وقوميون سوريون، كان أبرزهم ألبير فرحات ورياض رعد وزهير رحال وراضي فرحات، بيد أنهم ظلوا أفراداً يعيشون على هوامش عائلاتهم، قبل أن ينتقلوا الى هوامش المنظمات الفلسطينية، مصدر القرار والتسليح والتدريب.
وما ان غادر معظم المسيحيين مناطق الاختلاط، بنتيجة حرب السنتين، منكفئين شرقاً، حتى خلت الساحة لحليفي الأمس وكانت بذور التنافس الشيعي-الفلسطيني تينع. وبالتحولين هذين ارتسمت الخطى الأولى على طريق إحراز الصفاء المذهبي الساعي الى بلورة أدواته.
في هذه الغضون كانت ظهرت «حركة المحرومين» التي أسسها الإمام موسى الصدر ذراعاً سياسية للطائفة الشيعية. وفي محاكاة حَرفية لـ«حركة فتح»، التي سلّحتها ودرّبتها قبل أن تغدو عدوّها اللدود، اتسع التشكيل الوليد لانتماءات ومواقع ينفي واحدها الآخر. فوراء الإمام وقف إسلاميون تؤرّقهم عودة الإمام الثاني عشر من غيبته، وإسلاميون غيرهم تعلموا، في «فتح»، أن تحرير القدس امتحان الإسلام. وقريباً من هؤلاء وقف ماويون وفدوا من تنظيمات اليسار، يحبون «الشعب» ويتلمّسون آثاراً لصن يات صن في عباءة الصدر، بينما على مبعدة منهم وُجد سياسيون تقليديون ورجال أعمال أرادوا انتزاع حصة أكبر لطائفتهم في الحياة العامة، وهذا فضلاً عن المشايخ ممن رأوا في الشارع بالدعوة بوّابتهم الى موقع يستقلون به عن النفوذ المذهبي السنّي.
وما لبثت ظروف مثلى أن أحاطت بالولادة. فمع اختتام حرب السنتين، طرأ الدخول السوري الذي أيّده الصدر وعارضته المنظمات الفلسطينية وحلفاؤها اللبنانيون، ما جعل الشيعة يعبّرون علناً عن تململهم من جيرانهم الأقوياء، وهو تململ زوّدته السنوات أسناناً وأنياباً. كذلك هبّت الرياح السكانية لإنجاد المشروع. ففي 1976 هُجّر الجنوبيون من النبعة والدكوانة المسيحيتين فجاء معظمهم الى الضاحية، وبعد عامين كان الاجتياح الاسرائيلي الصغير الذي صبّت بفعله كتل سكانية أخرى في المصبّ نفسه.
وبعد العزوف التقليدي عن التديّن عند السكان «الأصليين» من ذوي المزاج الجبلي اللبناني، حمل اليهم الجنوبيون النازحون ورعهم وتقواهم. فلما تأسست «حركة أمل» الصدرية في أوساطهم، بدا كأن التديّن، في الضاحية، بات يملك شوكته وعصبيته. ووسط جموع المهجّرين من النبعة الذين غدا معظمهم وقوداً لـ« أمل»، وُجد رجل دين مؤثّر هو السيد محمد حسين فضل الله الذي تسمّى على اسم جدّ له حاول تعليم أهل الضاحية دينهم فلم ينجح نجاح حفيده. ذاك أن الزمن تبدّل كثيراً ما بين نشأة الكيان اللبناني في الأربعينات، وأواسط السبعينات. ومختلفاً أيضاً كان الحفيد الذي درس في العراق وبزّ السيد موسى الصدر في راديكاليته، بعدما شارك قريبه السيد محمد باقر الصدر تأسيس «حزب الدعوة» القائل بإقامة «جمهورية إسلامية».
تلك كانت سنوات «تحرير» الضاحية من المسيحيين، ثم من التأثير المشترك للمنظمات الفلسطينية وحلفائها في اليسار اللبناني. ففي 1978 تولت « أمل» طرد أحزاب «الحركة الوطنية» من معظم أنحائها. ولئن تحول اختفاء الصدر، في العام نفسه، مناسبة لاستعراض قوة التنظيم الطريّ العود، تحولت ثورة آية الله الخميني في 1979 وما تلاها من حرب عراقية -إيرانية مناسبةً لاستعراض قوة الطائفة ووزنها. واستقبل لبنان الحدثين في ظل رعاية سورية هاجسها تكثير الحلفاء والتابعين مقابل عزل خصومها الجدد، الفلسطينيين. وإذ انطوت سلطة الضاحية وسلطانها على شيعة يريدون أن يكونوا شيعة فحسب، غدا من يملك درجة الصفاء الأعلى صاحب الحظ الأوفر، فكيف متى استجابت له النوازع الاقليمية واستجاب لها؟
والحال أن ما حققته القوة حتى تلك اللحظة كان يبحث عن طرف يحفظه ويستأنفه براديكالية وإقدام أكبر. وطرف كهذا لا بد أن يكون صافياً، أو يتوهّم في نفسه صفاء لا تمتلكه « أمل» الكثيرة المشارب الموزّعة الأهواء. ذاك أن المهجّرين الذين قضت ظروفهم التعيسة بالوجود على رقعة أرض مشتركة، من دون أن تجمعهم ذاكرات مشتركة، كانوا يلحّون في طلب العقيدة القاطعة التي تنوب مناب تشعّب الذاكرات وعادات الجوار، ظانّين من خلالها أنهم واحدون موحّدون. ومثل هذا الطلب أقوى ما يكون عند شبيبة نافدة الصبر ضربها الاقتلاع ولم تعرف من تقاليد التعايش اللبناني الا احترابه.
إذاً الى العمل المباشر تنتصر به الدعوة، والى النموذج البديل يؤتى به من مكان آخر. وكانت إيران الخميني لا تقدّم نفسها للعالم الا بوصفها النموذج البديل.