هل الانسان حقا مخلوق مسالم؟ الواقع ان نوازع الخير تتداخل مع غرائز الشر في النفس الانسانية. ليس هناك الانسان/الشيطان، وليس هناك الانسان/الملاك. مئات الملايين من البشر تتغلب عندهم نوازع الخير على غرائز الشر. هؤلاء نتسامح مع سلبياتهم وشرورهم الصغيرة، ونسميهم تجاوزا الناس البسطاء الطيبين.
لكن الشر يصبح خطرا مخيفا عندما يتحول الى مؤسسة جماعية. عندما تغيب الضوابط القانونية والروادع الأخلاقية يتلاشى الانسان امام المؤسسة التي تضم كتلة من الاقوياء والنافذين، أو امام الذين يتحركون مدفوعين بهاجس آيديولوجيا تسوغ لهم ارتكاب الشر ضد الآخر أو ضد المجموع.
الشر قديم قدم الانسان على الأرض. «المؤامرة» مستمرة تاريخيا، ولم تتشكل في العصر الحديث أو الوسيط كما نظن واهمين. غير ان ممارسة المؤسسة القديمة للشر لم تكن تحتاج الى ذرائع. كان الشر الجماعي صريحا في مبادرته الى الحرب والغزو والافناء والاستئصال، ربما لمجرد نزوة في نفس طاغية.
مع تقدم نوازع الخير في مقاومة غرائز الشر في العصر الحديث، ومع الدعاية الهائلة للقانون وللسلام وللروادع الانسانية والاخلاقية المتمثلة اخيرا بمنظومة «حقوق الانسان»، لجأت المؤسسة الى اكساء «المؤامرة» قدرا من السرية. لم يعد الشر مباشرا وصريحا. لا بد من التستر على ادواته وفلسفة ذرائعه في عصر الديمقراطية والشفافية، مهما بلغت ضخامة وقوة مؤسسات الردع كأجهزة الأمن والحرب، ومهما تمادت منظمات الآيديولوجيا في التكفير والتخوين.
أدوات الشر والمؤامرة كثيرة. اختار منها هنا الاداة السمية، بمناسبة الحديث عن تسميم عرفات والأوكراني فكتور يوتشينكو. السم مع تقدم تقنية تصنيعه وتركيبه، ومع قدرة أجهزة المؤسسة على توصيله وزرعه، بات ستارا واقيا من الاتهام. السم السياسي أقل احراجا من الاغتيال بالرصاص، ومن الذبح بالسكين. الاتهام هنا عاجز عن تقديم المستمسكات والأدلة الدامغة. يسقط الضحية، ويبقى المتهم بريئا اذا لم يضبط متلبسا بالجرم المشهود، وتموت القضية رويدا رويدا طالما ظلت لغزا وشكوكا.
لا شك ان عرفات مات مسموما. ظل تغييب الزعيم الكبير لغزا! لا اللجنة المكلفة بالبحث اجتمعت، ولا أسرته أفصحت، ولا زوجته تكلمت، ولا الدولة التي عالجته اعلنت، ولا الدولة المتهمة (اسرائيل) اعترفت. لماذا كل هذا الصمت؟! لأن هناك اتفاقا ضمنيا عاما على الرغبة الجماعية في ترحيله، لأنه بات «عقبة في طريق السلام»! الندم آت عاجلا أو آجلا، لأن الزعيم الشعبي وليس السياسي هو القادر على عقد السلام وتحمل أعبائه أمام شعبه.
قد يكون السبب الآخر للصمت هو أن نوعية السم كانت محرجة. ربما كان السم عدوى بمرض ليس من قدر الرجل الاعلان عنه. لكن اسرائيل المتشفية والشامتة سربت الشائعة المحرجة. والسكوت الرسمي الفلسطيني عن ابلاغ شعبه وأمته بسر مرضه زاد، مع الأسف، من قوتها.
لست طبيبا، إنما أقدم هنا رؤى عدة. أولها اعلان شارون وجماعته المتكرر عن الرغبة في قتل عرفات اغتيالا، وذلك للتمويه على الاختراق المخابراتي الاسرائيلي الكثيف للفلسطينيين، وللتغطية على العميل داخل «المقاطعة» الذي تولى عملية دس السم في طعام أو شراب الختيار.
كل ما عُرف خلال مرض عرفات القصير أن الرجل يعاني من انحلال صفائحه الدموية، ثم من اصابته بآلام معدية ومعوية مبرحة، واخيرا بنزف دماغي أدخله في غيبوبة. في عودتي الى ملف موت ستالين اجد ان التقرير الطبي عن وفاته يشير الى الاعراض ذاتها! فقد ابلغه اطباؤه انه مصاب بانحلال صفائحه الدموية. بعد عشاء امتد الى الصباح مع اعضاء مكتبه السياسي، عُثر على ستالين مغمى عليه في غرفة مظلمة. عندما صحا شكا من آلام قوية في المعدة والامعاء، ثم اصيب بنزيف دماغي ادخله في غيبوبة انتهت بوفاته بعد اربعة ايام (5/3/1953).
المقارنة المتشابهة جدا لا تنتهي هنا. بل تدهور صحة ستالين المتسارع أثار شكوكه في أطبائه اليهود، الى درجة القاء القبض على 30 طبيبا منهم. وتم الاعلان عن «مؤامرة اصحاب القمصان البيضاء» قبل اسبوعين من وفاة ستالين. وتقرر تقديمهم الى المحاكمة استنادا الى اعترافات عميل روسي للاميركيين، يتهم الاطباء بالتآمر مع أميركا لتصفية ستالين والزعماء السوفييت من خلال العلاج الطبي.
من السخف الادعاء بأن الاطباء الذين عالجوا ستالين عالجوا عرفات، فأطباء الأول ماتوا جميعا قبل مرض عرفات. لكن أركز هنا على الخبرة اليهودية العالمية في الطب، وفي تصنيع السم السياسي الذي كاد يقتل منذ سنين قليلة الحماسي خالد مشعل، لولا نباهة الملك حسين الذي انذر اسرائيل باحتمال الغاء معاهدة الصلح، ان لم يقدم أطباء المخابرات الاسرائيلية المصل المضاد، لأنهم وحدهم يعرفون تركيب السم القاتل.
أخيرا، اتساءل عن السبب في عدم نقل الفلسطينيين لزعيمهم المريض الى المستشفى النمسوي في فيينا المتخصص عالميا في علاج السموم! عولج يوتشينكو في هذا المستشفى، وأكدت التحاليل تسممه بأشد أنواع الـ «ديوكسين» سُمِّيةً، وتحسنت صحته كثيرا. الغريب ان الاطباء الاسرائيليين عرضوا عليه معالجته للتخلص من البثور والقروح في وجهه. لكنه رفض ربما لشكوكه بهم، ثم للاتجار الانتخابي بوجهه القبيح الذي فاز على أساسه برئاسة الجمهورية.
المخابرات الأوكرانية المتهمة بتسميم يوتشينكو تنفي، وتؤكد ان الرجل ربما التهم سمكة سوشي فاسدة أو سامة، أو أدمن الكحول. هو يقول إنه أصيب بأعراض التسمم بعد عشاء «فاخر» مع قادة المخابرات في منتجع احدهم. لقد تعشوا به قبل ان يتغدى بهم.
وهكذا، فالسم سلاح تاريخي للدمار الشامل في الحب والحرب والسياسة. عرف العرب السم باكرا ولاحقا. ذهب امرؤ القيس الى قيصر بيزنطة، فأهداه قميصا حديديا ملوثا بالسم. مات مؤسس العراق الحديث الملك فيصل الأول ميتة مبكرة وغامضة في مستشفى سويسري محاطا بأطبائه الانجليز. وما زال موته لغزا انجليزيا.
عندما حانت فرصة عبد الناصر، بعد هزيمة 1967، لإزاحة ومحاسبة شريكه اللدود المشير عامر، شاء الأخير أن يموت بالسم، لا بالرصاص كعادة العسكريين المنتحرين. وما زال موته أيضا لغزا مثيرا للجدل.
الانجليز «يفضلون» السيارات. مات لورنس والملك غازي والأميرة ديانا والباشا حسنين رئيس ديوان الملك فاروق بحوادث مرور غامضة. لم تكن السيارة معروفة، بعد، في زمن نابوليون. لذلك مات في أسر الانجليز بالتسمم البطيء بالزرنيخ. الزعيم اليساري البريطاني طوني بن (79 سنة) يتهم مخابرات بلاده بالتسبب بمرضه المزمن.
هل يتعرض صدام للموت البطيء بالسم في أسر الاميركيين؟ لقد منعوا حتى محاميه من تقبيله أو مصافحته، فاكتفى المحامي بتأدية التحية العسكرية له!
المرأة تفضل السم في الحب والحقد. فهو الموت السهل الذي يخلصها من متاعبها، وهو الموت الناعم لرجلها. دست زوجة الزعيم السوري فوزي الغزي السم له، فحرمت سورية منه (1929) وفضلت عليه عشيقها الصيدلي الذي حضَّر لها الوجبة السامة. كان الساخر ريمون إده يهنئ اللبنانيين بالنجاة، لأن غريمه بيار الجميل أصبح صيدليا بعدما تم تصنيع الادوية وتعليبها في المصانع والشركات، وإلا لكان زبائن الصيدلي الجميل ضحية لأخطاء «الجهل» التي كان سيرتكبها في مزج العقاقير في صيدليته.
مات سقراط أيضا بالسم هربا من زوجته قبل قضاته. مع ذلك، نصح ابنه قبل تجرعه السم بأن يتزوج ليصبح فيلسوفا مثله. وأنت، عزيزي القارئ، تزوج، فالزواج هو المؤسسة الشرعية المقبولة اجتماعيا، وإن لم تكن المؤسسة المثالية الخالية من الهموم والسموم.