في العراق كما في فلسطين، وفي مصر كما في ايران، وفي تركيا كما في باكستان، هناك شعور عام يسود الشارع الشعبي، اي الرأي العام المحلي، بأن «عدواً» ما يتهيأ وقد يكون قد أعدّ العدّة لذلك منذ أمد بعيد للانقضاض على «هوية» هذا الشارع وخصوصيته. وان هذه الهوية هي الآن محل امتحان «الصمود» واختبار القدرة على «الممانعة».
ومنذ ان تحدثت بعد الدراسات الاميركية عما سمته في حينه «الهلال الاسلامي» او «قوس الازمة» الممتد من سلسلة جبال الاطلسي عند مدينة طنجة المغربية ـ غرباً ـ الى سواحل جاكارتا في اندونيسيا شرقاً ـ والشعور «الديني ـ القومي» لدى شعوب هه المنطقة الممتدة عبر كل هذه المناطق الاستراتيجية المتوزعة بين قارتي افريقيا واسيا، يتنافى يوماً بعد يوماً بأنه «خصماً» يهدد وحدتها الكيانية «القطرية» ناهيك عن وحدتها الكيانية كـ«أمة». وليس صدفة ان يتحول مشروع مواجهة «قوس الازمة» او «الهلال الاسلامي» الآنف الذكر من مجرد التذكير به والتنبيه اليه كــ«خطر محتملـش كما كان يجري الحديث عنه في نهايات القرن الماضي، الى مشروع فعل سياسي يحمل مرتبة الصدارة في سلّم اولويات الدول الكبرى الباحثة عن هيمنة «امبراطورية» على هذا «القوس» المتأزم عنوانه «الشرق الاوسط الكبير».
وعند هذه النقطة بالذات تبدو الشكوك التي كان ولا تزال تحوم حول هذه المشاريع القادمة من وراء البحار البعيدة، في محلها، ويبدو التوجس من وجود «خصم» ما يحاول سحق الهوية الدينية والقومية لتلك الكيانات بمحله ايضاً. كيف؟
ببساطة متناهية يقول المشككون والمتخوفون انه كما كانت هذه المنطقة الممتدة عبر الهلال الخصيب الاسلامي في الواقع عبارة عن وحدة تاريخية ـ جغرافية ـ حضارية عنوانها العريض: العالم الاسلامي او الوطن الاسلامي الكبير والذي ظل يحمل في داخله او في طياته كيانات ثقافية واحياناً حضارية خاصة بين عربية وفارسية وتركية وكردية وهندية واخرى متفرعة او متجاورة معها وان كانت تحمل خصصيات عرقية او قومية او دينية او مذهبية شتى لحنها تآلفت وانصهرت على مدى القرون الماضية في اطار هوية حضارية عريضة عنوانها «الاسلام» ذلك الدين والفكر والمنظومة العابرة للحدود والتقسيمات الضيقة الناشئة حديثاً من بطن الحروب الاستعمارية الحديثة. فانه ما عدا مما بدا حتى صار اسمها «الشرق الاوسط» ومن ثم الجديد وها هو اليوم يتـحول ليصبح «الكبير»!
ثم ما هي الاهداف الحقيقية التي تقف وراء ربط هذا المشروع «الجيوسياسي» المبهم والغامض بمقولة او منظومة «الاصلاحات» المتعددة التي يراد تعميمها على كيانات ذلك الوطن الكبير كافة من دون الحديث ولو بكلمة واحدة عن تلك «الدولة» او الكيان الغريب المزروع في قلب ذلك الوطن الذي يراد اصلاحه وهي اسرائيل!
بعبارة اخرى كيف يراد من القيمين على كل الكيانات الممتدة عبر ذلك الهلال الاخضر «اصلاح» انفسهم وتغيير هوياتهم لتصبح «عابرة» للايديولوجيا والدين والهوية القومية والحضارية بينما يتم في المقابل التشريع والتقنين لكيان طارئ ومزروع بمثابة دولة دينية نقية اسمها «الدولة العبرية اليهودية»؟!
ثم يأتي بعد ذلك الأدهى منه الا وهو تجريد كل الكيانات من قدراتها المادية بعد سلبها لقدراتها المعنوية فيما يتم التقنين والتشريع للدولة «الدينية» الوحيدة المسموح لها في المنطقة بأن تكوم مدججة بكل انواع القوة والتسلح بما فيه النووي وسائر اسلحة الدمار الشامل! كيف ولماذا؟!
ولا ننسى اخيراً وليس آخراً فرض نسبة 11.8 في المئة من مكونات الاقتصادات المحلية لتكون اسرائيلية!!
الا يشكل مثل هذا بالنسبة لشعوب وامم هذا الهلال شكلاً من اشكال الحرب الشاملة على الهوية؟؟
ثم أليس من حق شعوب وامم هذه المنطقة الغنية بالخيرات والامكانات والمقدرات ان تشعر بالغبن والظلم الفادح الذي يمارس ضدها بما يرتقي الى درجة الارهاب الشامل ضد وجودها ناهيك عن حدودها وسيادة بلدانها ووحدة اراضيها؟!
ثم ماذا يعني ان تتحول كل هذه الكيانات والاقطار التي ظلت متعايشة عبر القرون في اطار هوية حضارية راقية ومتقدمة «بقدرة قادر» الى مجرد تجمع «للاقليات» القومية والعرقية والدينية والمذهبة؟!
وهل هذا التنوع العرقي والقومي والمذهبي غير موجود الا في بلدان الهلال الاسلامي الاخضر؟ فاذا كان الجواب بالنفي وهو كذلك فلماذا يشجع في بلدان «التقدم والرقي» على «الانصهار» وتمنع «الخصوصية» الى درجة تسويغ القمع ضدها وصولاً الى اعلان الاستنفار العام ضدها بينما يشجع في البلدان النامية و«المتخلفة» على الانشقاق والقسمة والانفصال وتمنع وحدة الهوية والهوية الواحد وصولاً الى تشريع الحروب الاهلية والدعوة الفاضحة للفتن الطائفية والقومية والعرقية؟!
ثم بعد ذلك كله يطلق العنان للدولة «الدينية» النقية العرق والمذهب والدين والايديولوجيا لتستحوذ على الارض وصاحب الارض من دون حسيب ولا رقيب؟!
اسئلة كبرى تحمل اجوبتها في طياتها وكل جواب منها ليس سوى مشروع حرب متنقلة على الذات والهوية الحضارية والثقافية والدينية والقومية لشعوب وامم دار الهلال الاسلامي الممتد من طنجة الى جاكارتا. فهل ثمة من حق مشروع لدى هذه الشعوب والامم العريقة بالمقاومة؟! واي هو موقع مقولة «الارهاب» على حقيقتها في ظل هذه المواجهة غير المتكافئة؟!
قد يقول قائل هنا بأن هذا هو ما جنيناه على انفسنا بفعل اعمالنا السابقة او اعمال البعض من ابناء جلدتنا على الاقل لا سيما اولئك الذين صنعوا احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) غير ان السؤال يتجدد هنا وبكل مشروعية: ومن هو المسؤول الحقيقي عن احداث وعداوة الكيان «الديني» النقي من شوائب التعددية مجتمعة والمقيم خارج قوس الاصلاح يسبق كل ظلم وهو البادئ في العدوان على كل قيم العدالة والاصلاح والديموقراطية والتعددية في الهوية؟!