انني اشعر بالخوف، لا الخوف ليس كلمة ملائمة، لكن كلّ الكلمات صارت غير ملائمة. من اين نجلب الكلمات الملائمة التي تعبّر عن هذا العراء العربي الذي يُثقل علي القلوب والصدور. لكن لا، الخوف ليس صفة مطابقة، فبعد حرب لبنان، وبعد ما يجري في فلسطين والعراق لم يعد الخوف هو المسألة. نعم يخاف الانسان، مشهد طوفان آسيا والمآسي التي ضربت فقراء اندونيسيا وسيريلانكا والهند، تثير الخوف، الانسان امام جنون الطبيعة العصي علي الترويض، لا يملك سوي الخوف والرهبة والرجاء.
لكن حين اري تدفق المساعدات الانسانية الي المناطق المنكوبة، ومواقف التضامن الانساني التي اجتاحت العالم، ولا اري مظهرا او تعبيرا تضامنيا جديا في المشرق العربي، اصاب باليأس. هذه هي الكلمة الملائمة، اليأس. لكنني لن استخدمها. اذ ليس من اللائق او المستحب ان يبدأ المرء سنته بهذه الكلمة، خصوصا وانه يكتبها وينشرها. فالكتابة ليست تسجيلا للأشياء او الاحداث فقط، بل تحويل لها ايضا. فعندما تنغرس الكلمة في الحروف تتحول من صوت معرّض للنسيان الي شيء موجود في ذاته. وهذه مسألة اخري.
قلت انني شعرت باليأس، او لنقل انني حزنت. كلمة حزن، رغم سلبيتها اخفّ وطأة، ويمكن ان يبدأ بها الانسان عاما جاء بعد سنة مليئة بالدم والموت. وسبب حزني ليس فقط خوفي من الطبيعة الوحشية التي قتلت مئات الألوف من الآسيويين، بل وجودي وسط لامبالاة عربية مخجلة. مئات الوف الآسيويين يعملون في هذه البلاد: خدم وعمال وموظفون والي آخره. حتي انك تمشي في شوارع العديد من المدن العربية من دون ان تستمع الي كلمة عربية واحدة. يختلط الاوردو بالسيرلانكي بالهندي... ومع ذلك لا شيء. لا تضامن ولا مساعدات ولا راية سوداء واحدة في بلاد العرب التي يغطيها عارها وعجزها.
لا اريد الذهاب الي استنتاج سريع كأن اقول انها العنصرية بكل ما في هذه الكلمة من معني. ورغم انني اعرف من تجربتي البيروتية الوحشية العنصرية التي تعامل الخادمات والعمال السيرلانكيين في لبنان كأنهم حيوانات مسجونة في اقفاص ولا يحق لها امتلاك مشاعر انسانية، فانني لن اتوقف امام هذه المسألة اليوم، لأنها تحتاج الي قراءة خاصة بها. العنصرية داء لم يجر تحليله وادانته في الثقافة العربية، من الموقف من الاكراد الي آخره...
ما استفزني هو غياب التهذيب والمبادرة والاهتمام، وهذا يدلّ علي غياب اشد فداحة. لقد اعلنت كارثة آسيا غياب العرب عن العالم، مكرسة الافتراض الامريكي بأن العالم العربي هو رجل امريكا المريض، مثلما كانت الدولة العثمانية هي رجل اوروبا المريض في القرن التاسع عشر.
قد نقول ان الغياب العربي عن عالم اليوم هو نتيجة منطقية للاحتضار الطويل الذي تعيشه الانظمة العربية منذ نهاية الحرب الباردة. وهذا صحيح، لكن الصحيح ايضا، وهذا هو المحزن والمخيف، انه يعبر عن غياب البدائل. الانسان، بحسب مؤسس الماركسية لا يطرح علي نفسه اسئلة الا حين يملك اجوبتها. اما في العالم العربي فان الاسئلة تنهال علينا من كلّ صوب ونحن لا نملك سوي الانتظار. والاسئلة تأتينا علي شكل تحديات دموية واعصارات لا تذّكر الا بالزمن المغولي.
العالم العربي مطروح ارضا، بعدما اجتمعت عليه كوارث ثلاث:
الكارثة الاسرائيلية، التي صنعت نكبته الاولي المستمرة منذ نصف قرن.
الكارثة النفطية، التي سمحت للطرف الاكثر تخلفا واصولية بقيادة العرب بعد الهزيمة الحزيرانية المشؤومة.
الكارثة العسكريتارية، التي اعادت انتاج النظام المملوكي، ليس علي قاعدة القتال والحرب، مثلما كان في القرون الغابرة، بل علي قاعدة الغلبة والعصبية والمناطقية والطائفية والمافيا، وصولا الي الجمهوريات الوراثية.
هذه الكوارث الثلاث تتخذ اليوم بعدا جديدا من خلال الغزو الامريكي للعراق، والتــــــماهي المطلق بين الاستعمارين الصهيوني والامريكي، بحيث صار المشرق العربي ارض الفوضي والخراب.
السؤال ليس ماذا تحمل لنا السنة الجديدة. فهي لن تحمل سوي المزيد من الكوارث في ظلّ الغطرسة الاسرائيلية والعته الامريكي. انتظار الاعجوبة لن يستولد الاعجوبة، وانتظار ان تأتي اوروبا لانقاذنا لن يجرّ علي العرب سوي اليأس. لا احد ينقذ احدا. هذا هو التاريخ للأسف. حتي الصين وجدت انه من الاجدي لها التعاون العسكري مع اسرائيل. المسألة ملقاة برمتها علي عاتقنا.
في الماضي القريب، اي في عصر النهضة، حسمت النخب العربية خياراتها علي الرغم من استشعارها الهول الاستعماري الذي كان يقف خلف زاوية السقوط الحتمي للدولة العثمانية، رافعة شعاري الاصلاح والاستقلال الوطني.
اظن اننا في لحظة مشابهة، لم يعد من الممكن اصلاح النظام العربي. علي هذه الجثة ان تمضي الي القبر. وعلينا ان نكتشف الطرق والوسائل من اجل تأسيس فكرة المواطنة. اي تأسيس اشكال الخلاص من الاستبداد وبناء الحرية والديمقراطية.
هذه هي المهمة العاجلة في القوس الممتد من مصر الي بلاد الشام.
نقطة البداية تكمن هنا، انها المزج بين التنوير والحرية ومقاومة الاحتلال، اي استعادة الحق في ان يكون المواطن سيدا في بلاد حرة. ان منطق الوصاية العسكريتارية او الاصولية الدينية سقط تحت احذية الغزاة، وكل سفن النجاة او الهرب احترقت او غرقت. لم يعد امام العرب سوي العقل والارادة كي يواجهوا الكوارث التي اجتمعت في ارضهم. وهذا يبدأ من مكان واحد اسمه الحرية.
النضال من اجل الحرية يسمح لنا بالخروج من اليأس والحزن والخوف.
فهل نستفيق من هذا السبات؟ ام ان علينا ان نبقي مطروحين في ارض التاريخ؟