الأيام الأولى من عام 2005 اللبناني متوترة. الأيام القادمة مرشحة لمزيد من التوتر. تقول المعطيات إننا سنشهد صراعاً بين معارضة تحملها ديناميتها وموالاة مكتفية بالركض وراء سراب الأكثرية النيابية العددية.
ليكن واضحاً من البداية، إن الدينامية، في لبنان، هي من حصة المعارضة. وثمة مؤشرات لا تخطئ على ذلك.
1 توسعت النواة الصلبة للمعارضة بانضمام وليد جنبلاط وكذلك باختراقات يمثلها lt;lt;المنبر الديموقراطيgt;gt; وlt;lt;اليسار الديموقراطيgt;gt;. صحيح أن التباينات حاضرة ولكن ذلك لا يفعل سوى توسيع قاعدة الجمهور الذي تخاطبه. إن التعدد، هنا، غنى.
2 تملك هذه المعارضة احتياطياً جدياً. فهي ترتبط عبر أحد أركانها (جنبلاط) برفيق الحريري مع ما يعنيه من وزن. وليس من المستبعد أن يقترب منها وفق صيغة lt;lt;وحدة الهدف لا وحدة الصفgt;gt; ولو أنه سيراعي في ذلك ألا يصطدم بالخيار الإقليمي الإجمالي. إلا أن رئيس الحكومة السابق قادر على إفقاد هذا الخيار، إذا كان يعني الائتلاف الحاكم حصراً، مرتكزاً محلياً ثميناً.
3 لهذه المعارضة أرجحية واضحة في الوسط الثقافي بمعناه العريض: من محترفي الثقافة إلى أصحاب المهن الحرة. شعاراتها تخاطب هذه البيئة: ديموقراطية، حقوق إنسان، رفض التدخل الأمني، الهزء من طرح قومي مفوّت، إلخ... والأهم من ذلك أن هذه الأرجحية تمارس على فئات قادمة من روافد مختلفة، وأن هناك، في صف الموالاة، من يستلقي على ظهره ضحكاً عندما يُقال له lt;lt;ثقافةgt;gt;.
4 إن الشرط الإقليمي يعمل لصالحها. تتبرأ قواها من هذا الأمر وكأنه تهمة غير أن الحسابات الباردة لموازين القوى تقلل من أهمية هذا التبرؤ. لا يعارض عرب كثيرون أطروحاتها، ثم إن الكلام عن الشرط الإقليمي يتضمن أن الولايات المتحدة، بعد احتلال العراق، قوة إقليمية أيضاً.
5 ثمة تحول في الوضع الدولي لصالح هذه المعارضة. والتطورات المرتقبة في المنطقة خلال الشهور القادمة ستعزز هذا التحول. لقد حدث تعديل في السياسة الأميركية. وحصل انقلاب في السياسة الفرنسية حيال الشكل الراهن للعلاقات السورية اللبنانية. وتبنى الاتحاد الأوروبي الموقف الفرنسي.
6 ليس أسهل من إدراج خطاب المعارضة في المزاج الإقليمي والدولي الراهن. وليس أسهل من تقديمه بصفته خطاباً عقلانياً يستطيع، إذا تحوّل إلى سياسة فعلية، تجنيب لبنان مخاطر كثيرة. وإذا كان lt;lt;يسارgt;gt; هذه المعارضة يكيل الشتائم للعدوانية الأميركية والتوسعية الإسرائيلية فإنه يبني على ذلك استنتاجات لبنانية مؤداها التأقلم مع العاصفة وعدم مناطحتها.
7 المعارضة اللبنانية أكثر إمساكاً بشعارات جذابة تخاطب أي حس بالحد الأدنى من العدالة، والديموقراطية، ونزاهة القضاء، وعدم الكيدية، واحترام قواعد اللعبة السياسية. لا تركز هذه المعارضة على قضايا مهمة من نوع الأزمة الاقتصادية، والمأزق الاجتماعي، والتفارق الطبقي، وتردي الخدمات، وتراجع القطاع العام، إلخ... ولا تقترح، بالتالي، حلولاً مقنعة. يجنّبها ذلك عبء مساءلة بعض أطرافها عن مسؤولياتهم، كما أنه يساعدها على استثمار التذمر اللبناني العام من الأوضاع كافة وتوظيفه في خدمة توجه قد لا يملك، بالضرورة، رداً عليه. إن التعبئة من موقع الاعتراض فعالة أكثر من الإدارة... خاصة في ظل دولة شبه مفلسة.
8 تلعب أطراف في هذه المعارضة دوراً محدداً حيال القوة الشعبية الرئيسية في المعسكر الآخر: lt;lt;حزب اللهgt;gt;. فهذه الأطراف تتجنب أي لغة صدامية، وتشير إلى إجماعات سابقة، وتؤكد الاحتضان اللاحق، وتستفيد، حتى، من اعتراضات لدى الحزب على جوانب في السياسة الرسمية. ويمكن قول الشيء نفسه عن lt;lt;معنى العروبةgt;gt;، وعن lt;lt;العلاقات المرجوة مع سورياgt;gt;، وعن lt;lt;احترام الطائفgt;gt;، إلخ...
9 تستفيد هذه المعارضة من lt;lt;التحييدgt;gt; الذي أصاب بعض اليسار اللبناني (الحزب الشيوعي)، ومن أطروحات قيادات
سياسية ضاقت ذرعاً بممارسات يصعب الدفاع عنها. من غير الجائز، والحالة هذه، الاستهانة برسالتي الرئيسين حسين الحسيني وسليم الحص. لم يكن قصدهما إفادة المعارضة ولكنهما، عملياً، زادا إلى رصيدها وأظهراها في حالتها الدينامية وفي قدرتها على الجذب.
... ويمكن الاستطراد. يمكن تسجيل ما يسهو عن بال السياسة التقليدية لدينا: شباب المعارضة أكثر نضالية وكفاحية وأشد تفاؤلاً، التفاوت بين ما يقوله المعارضون علناً وما يقولونه سراً أقل ممّا هو في حالة عدد كبير من الموالين، الصلة بين قادة في المعارضة وجمهورهم عضوية أكثر مما هي لدى قادة في الائتلاف الحاكم. ويكفي أن نزيد إلى ما تقدم ما نعرفه عن ضعف الذاكرة السياسية للبنانيين، وعن محلية فهمهم، حتى نكون أمام هذا الاستنتاج: المعارضة، في لبنان، قوة دينامية.
لا معنى لهذا الاستنتاج إلا بالمقارنة مع حالة الموالاة. يكاد المشهد، هنا، أن يكون مريعاً.
لنأخذ قانون الانتخاب مثلاً. ولندع جانباً معنى التأخير في إقراره. لنكتف باستذكار الكمّ الهائل من التضارب لدى أطراف الموالاة في موضوع بهذه الأهمية. التضارب هنا ليس تعدداً يثري. إنه تضارب محكوم بهمّ واحد من شقين: كيفية الحصول على أكبر عدد من النواب بأقل فضيحة سياسية ممكنة! هذا هو الهمّ الوحيد. ولأنه كذلك فهو مصيبة.
قوى الموالاة عديمة الحيوية (غير الأمنية).
مرجعيتها تفاخر بأنها بطيئة الحركة. قواها الداخلية غير متجانسة، ولا تملك تصوراً للبلد بعد الانتخابات، ولا تعرف استنهاض قطاعات، ولا تخاطب ما هو حديث في المجتمع. القوة الجدية الوحيدة بينها lt;lt;حزب اللهgt;gt; لا يملك دينامية صالحة تماماً للصرف في التداول السياسي اللبناني (تخسر هذه القوة من قيمتها في السوق المحلية)، ثم أنها محاصرة دولياً وعربياً ومقدمة بصفتها مصدر مخاطر لاحقة.
أضف إلى ذلك أن الموالاة تعاني من وجود lt;lt;ثقّالاتgt;gt; تعيق حركتها لأنها صنيعة الوضع القائم إلى حد أنها تخشى أي تغيير يضر بها. وثالثة الأثافي أنه يمكننا تسمية بعض من لا يتردد في تغيير موقعه إذا استشعر انقلاباً جدياً في موازين القوى.
إن الركض وراء lt;lt;عدد النواب في المجلس القادمgt;gt; هو العارض الخارجي لداء عميق. وهو، فوق ذلك، مداواة لهذا الداء بمراهم.
عندما تحصل الانتخابات سينصرف قوم إلى عد النواب وقوم اخرون إلى قياس الفعالية. سيبدو التناقض واضحاً. ويعني ذلك أن الأزمة إلى تفاقم وأن العلاجات lt;lt;الإداريةgt;gt; للدينامية السياسية لن تنفع.
ربما لا زال في الوقت متسع لمبادرات كبرى. نقول lt;lt;ربماgt;gt; مع الاعتذار لأن من يفوّت على نفسه فرصة وضع قانون انتخابي lt;lt;تغييريgt;gt; لن يقدم على خطوة في الاتجاه الصحيح. لقد أدرك الرئيسان الحسيني والحص إلى من يوجهان الرسائل. ولكن يبقى أن يكون الجواب مؤاتياً بحيث تستقيم الحياة السياسية اللبنانية صراعاً بين ديناميتين لا بين دينامية المعارضة وحسابات الحانوتي.